ينفرد اهل الباحة بلهجات تميزهم عن غيرهم، يحفها استجابة ورضى سريع من قبل المتلقي ويقابلها باستساغة وقناعة تامة مع ما يعزز ذلك من ملامح مشرقة فتجليات الصدق والوجه البشوش الذي لا يعرف التكلف هو من حقق حالات الرضى وعزز القناعة عند الطرف الاخر والمتأمل لمخارج الصوت والحروف من وجه مألوف معتمر بالصفاء والصدق أمرٌ أخر أسهم بسرعة لحالات القبول في الاستمرار لتبادل الحديث ، مما سيسهم وبدقة في نشر الصواب المعرفي في الجوانب اللغوية واحياء ما اندثر من مفردات كانت تستعمل بين الناس حينما يتبادلون الحديث فيما بينهم ، وهناك شواهد كثيرة تؤكد قولي هذا ، بل ان هناك العديد من المؤلفات في هذا الجانب اذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب (الفصاحة في منطقة الباحة) للدكتور عبد الرزاق بن حمود الزهراني أستاذ علم الاجتماع في جامعة الامام محمد بن سعود بالرياض سابقاً والكتاب يعد معجماً للكلمات الفصيحة التي تستعمل في الحياة اليومية بالمنطقة وقد اعتمد المؤلف على طريقة علمية في وضع المفردات المستعملة مع القياس على ذلك من خلال كتب المعاجم العربية والمدراس اللغوية وقد اختط منهجا في ايراد الكلمات واوضح ذلك ضمن مقدمة الكتاب حتى لا يشكل على القاري شيء في ذلك اثناء طريقة البحث مع ان التصنيف كان وفقا للأحرف الابجدية الامر الذي يمتع القاري والباحث والدارس ويسهل عليه الوصول الى المفردة بسرعة ، ومن هذا المنطلق حول الثراء المعرفي للمفردة المستعملة في منطقة الباحة اخترت هذا العنوان لمحاولة ايصال الدلالة والمعنى حول الكلمات المستعملة فيه ، حيث يعد هذا العنوان شعاراً وامضاً في المنطقة ويحضر في كل الاحتفالات والفعاليات ويشكل علامة فارقة وبصمة تمتاز بها منطقة الباحة الامر الذي قد يتسأل البعض حول هذه المفردات بمحسناتها اللفظية الواضحة المعالم ، فمن خلال اللفظ ينتقل بنا المعنى مفاهيما وذهنياً الى الدلالة المستعادة ، فطرق وتحسين الكلام في اللفظ يدركه المتلقي ويدرك المعنى المقصود منه ، والعنوان يتجه الى الترحيب في استقبال الضيوف حال مقدمهم فعادة العرب تقول اهلا وسهلا ، والاهلال هو من الهلال وهو ما على وارتفع وسطع ضوءه ، ومن خلال ذلك يدرك الضيف المكان والعلو التي وضع فيه عند المضيف في المقابل قد اتخذ الشعراء الهلال شاهداً لجميل اوصافهم وبديع اقوالهم ، وقد انعكس ذلك على حياة الناس الاجتماعية يقول احدهم :
اهلاً بمونس وحشة المشتاق
زين الطليعة نيّر الافاق
اهلاً بغرتك التي كم اثلجت
قلباً وهاجت كامن الاشواق
واستتباعاً لذلك ندرك انه كان وصفاً دقيقاً تتجلى فيه هموم الواصف على اختلاف دوافع الوصف والسهل هو الاخر لا يقل معناه عن سابقة لان السهل هو الوادي العريض المخصب ولهذا تصل الصورة مع ظهور واسع لتجليات لملامح الاشياء الى هذا المستوى مع اقلال في اللفظ كل ذلك يوكد الدلالة والمعنى من سحر الكلام ، ولك ان تستـحضر كل هذا الزخم في هاتين المـفردتين
( السيل والهيل ) وبما ان الكرم هو من ابرز السمات العربية فقد اختط ابن الباحة نمطاً مغايراً ومختلفا لتأكيد معنى الكرم وحسن الضيافة والاستقبال، ولهذا جاء هذا الترحيب على هذا السياق والنسق ، ولكي نقف على ذلك كان من الضرورة بمكان تأكيد عربية الكرم قبل كل شيء، فكلنا نجزم بتلك الصفة النبيلة التي تفيض بالجود والعطاء عند كل عربي أبي ، الا ان الكرم يأخذ طابعاً خاصاً في كل بيئة ثقافية ، واتساقاً مع نوع الأسلوب وطريقة الاستقبال فأهازيج صوت الترحيب وترانيم نبرة الصوت كما يتضح يتوافق شطر الاول للترحيب مع الشطر الثاني (مرحبا هيل .. عد السيل) فيتضح الانسجام على مستوى النسيج اللغوي وتنساب الكلمات سهلة مستساغة ولا يكفي ان تكون مبررات للشعور بجمالية اللفظ ، بل الى جانب ان الكلمات منتقاة تعبر عن مستوى بصري وفني مموسق وتقترن بجماليات متنوعة وتعبر عن طرق وعن معانٍ ودلالات اثيرية تخرج من بين تضاعيفها حالة مطرية مروية بوابل غزير، فيمتد السيل على اديم الأرض وهذا استبشار بالحياة واستشراف للمقدم ، من هنا تتجلى حياة معنوية صادقة مفعمة بالبشر والاستهلال ، والعرب افضل ما كانت تستبشر فيه هو السيل لأنه أغنى غيرهم وتعدى اليهم فجريانه في الأرض وسيلانه في الاودية هو الى مستقر ليمكث في الأرض ليتحقق منه النفع وهنا يكون تجاوز الى نفع متعد ومستمر ، وهذا هو المعادل الموضوعي بين الطرفين والمعنى الحقيقي من دلالة الترحيب ، اما لفظ الهيل فهو يعنى تتطاير انبعاثات الروائح النفاذة لتعم اريجاً في ارجاء المكان وهذه الصور جاءت عن لغة قوية ناجزة ومع ان ثمرة الهيل لم تكن عربية فضلا عن ان تكون في منطقة الباحة فهي ثمرة جاءت بالهجرة التجارية فعرفها انسان الباحة وعرف قدرها ومزاجها المستلذ للشاربين فقد افرد لها مساحة افقية تستحقها وامتدت على كامل الوجه الثقافي بالمنطقة طولا وعرضاً لتحمل اسم المرأة بل وحتى تنسب الى كل ما يتناسب مع مكانة تلك الثمرة وقيمتها واصبحت تقال لمن كان فعله حسن طيب ، ووصفت بها ثماراً اكثر روعة ونظارة ،والنوع الفارع من الفاكهة الغضة يقال لها (هيلٌ) بمعنى امتازت عن غيرها الى مرتبة متجاوزة ليس لها نظير ولا مثيل ، وهذا لاشك يؤكد التطور اللغوي تبعاً للحياة المتغيرة ، وعلى اعتبار ان اللغة في مجملها اتفاق وتواضع بين الناس ، ولا تزل ثمرة الهيل هي مهجةُ الصبح كشقيقتها الكبرى القهوة
يقول الشاعر محمد الثبيتي في قصيدته ( تغريبة القوافل والمطر )
أدر مهجة الصبح
وزد من الشاذلية حتى تفيء السحابة
أدر مهجة الصبح
واسفح على قلل القوم قهوتك المرّة المستطابة
ان هذا الترحيب منتقى بعناية ويتعدى اللفظ الى غيرة ويعكس القدرة اللغوية عند انسان المنطقة لتطال المعنى السامي والمفهوم الواسع الذي مثل حالة كرنفاليه مغايرة ومختلفة تستدعي حين سماعه منصة استعراض حافلة لتسعد بمقدم كل ضيف وهذا الشعار يحمل قيماً جمالية وثقافية تتنوع وتتوحد في الوقت نفسة، ويكمن تنوعها في استدعاء صور الطبيعة بحالتها الباذخة السيل وجريانه على اديم الأرض وحالات الارتواء التي انعكست على كل الوجود وتتوحد في نغم المفردات بجرس موسيقي منتظم يطرب لحالتها كل ضيف وقادم حتى انه ينبع من دلالات الملامح الصور الصادقة التي توحي بعروبة الكرم واصالة صوت كلماته وانتقاء مفرداته
فمرحباً هيل عد السيل.
———————
ماجستير في الادب والنقد