احتجبت الدنيا بستار الحظر؛ وكأنه الليّل الطويل من بعد شمس الأصيل، بعد نهار كنا فيه طلقاء، أعزاء، أقوياء، لانهاب صعود الجبال مهما علت وانحدرت، وتعرقل السير فيها ..
نمارس أعمالنا اليومية نزرع الأرض ضياء، ونحصد العطاء، انصاعت لنا الآلة والمادة ومعطيات الوجود، نشق عباب البحر .. ويحلق بنا الطموح ليعانق السماء .!!
غير عابئين بمن حولنا، وغير مقدرين لما نحن فيه من نعمة الحرية
في كل فجر نخرج بحثًا عن الأرزاق دون قيود..بالوقت أو الحدود.!
أرهقنا تلك الرحلة الطويلة، وظهرت أيُّها الحظر الطويل، مزامنة مع فيروس كورونا بعد ذلك النهار الجميل، ظهورك هذه المرة له تأثير على الحياة ليغيّر ماتعودنا عليه من سكون الليّل ونجوم تلمع في الأعالي بالأملِ بأنه سيولدُ فجرًا جديدًا ليوم جديد من حياتنا ..!
تغير كل شيء تغيرًا فجائيًّا.. من الحركة الدائبة إلى السكون القاتل .. من الفرح الطاغي .. إلى الصمت الباكي .. كل شيء يدعو إلى الارتياب ..!
فالحظر في نظرِنا لايقلُ عن ليّلِ امريء القيس في معلقته:
وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقــلت له لمّــا تمــطّى بصُــلبه
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
شبه الليل بموج البحر وهو يروعنا في هولهِ وفي تكرارِه وفي كثافةِ ظلمتةِ، وغموضهِ وفيهِ من الوحشةِ ما فيهِ، وخاصة وأن هناك سدولًا وستائر ستُرخى لتكون هذه العتمة الرهيبة، وها هو الليّل أرخاها مع أنواع الحزن ليختبرنا : أنصبر … أم نجزع ..!
كذاك هو الحظر في جائحة “كورونا ” بدأ بسحابةٍ زحفتْ بظلامِها المعتمِ من الصين للعالمِ قاطبة، وحجبت الصفاء وبريق النجوم المتلألئة، وقرعتْ بظلامِها ظلام الليّل، ولم نعد نفرقُ بين ظلام الليّل وضياء النهار، إذ نستقبله في عزلة واحتراز ؛ حتى داخل البيت الواحد..!نتحرى كل يومٍ في خوفٍ وترقبٍ لأرقامِ الاصابات .. والاحصاءات .. وإعلان مجمل الحالات و الوفيات ..!
تغير كل شيء وانقلب كل مفهوم ..فالكل لسان حاله يقول:
“نفسي .. نفسي” والتباعد هو المحتم حتى من أقرب الناس وكأننا على أعتابِ قوله تعالى :
(يوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)
عبثتْ بنا رياحُ “كورونا” العاتيةِ وسط الغمة، نتخبطُ في مصيرٍ حالك الظلمةِ.. ولا يزالُ في قلوبِنا أملٌ كبيرٌ بأن هذا كله سيزول مهما طال، ومازلنا ننتظرُ بزوغُ الفجرِ لعودةِ الحياةِ، وتنتهي الآلامَ والأهات، وتنقشعُ سحابة “كورونا” لِينكشفَ أمامَنا فجرٌ يلوحُ بأملٍ عظيم.. ولكن علينا العودة بحذرٍ ..!
نؤمن بأن الليّل مهما طال فلا بُد من فجرٍ بعدهُ، وهذه هي سُنّةُ الله في الكونِ ..
إيمانًا بقوله تعالى:
(وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)
فالاستغفار أهم مفاتيح التغيير من حالٍ إلى حالٍ، كلنا يتذكرُ أننا قبلَ “كورونا” ذُقنا حلاوةَ الحياةِ خالصةً، وبعدَها ذُقنا مرارتَها وجزعَنا، كما يجزعُ كلُّ من ذاق من الشرابِ مرارتِهِ، ولا قبلنَا باحتمالِه..!!
ومن تمام اليقينِ إن لا نيأس على ما فاتَنا، فإنما أيامَ الحظرِ كانتْ وديعةٌ من ودائعِ الدهرِ أعارَها اللهُ لنا برهةً من الزمانِ ثم استردَها..!
لا ندري لعلَّ اللهَ أرادَ بي وبك خيراً ؛فمنحَنا قبلَ حلولِ الأجلِ فرصةً، نخلو فيها بأنفسِنا لنراجعَ معها فهرسَ أعمالِنا، فإن رأينا خيرًا اغتبطنا، أو شرًا استغفرنا.!
قضى اللهُ أن يقيمَ في كلِّ زمانٍ من الحياةِ لهذا العالم الغافل الراقد عبرة من العبر تزعجُهُ في أمنتِه .. وتوقظُهُ من غفلتِه، فكانتْ “كورونا” هي العبرةُ في زمنِنا هذاْ فهل نتعظُ ..!؟
سنعودُ وتعودُ الحياةُ، ولكن علينا الحذرَ ثم الحذرَ حتى لاينطبقُ علينَا الحالُ عند امريء القيس حيث تمنى أن يزولَ اللّيلُ ويسفر الصبحُ، وهو على يقينٍ أن الصباحُ لن يطلعْ عليه بحالٍ أفضل، إذ يتمنى زوالَ ظلامِ اللّيل بضياءِ الصبحِ يؤكد أن ليس الصباحُ بأفضلِ عندَهُ كما في قولِهِ:
ألا أيُّها اللّيل الطويلُ ألا انجلي
بصبـــحٍ وما الإصبـاحُ منك بأمثلِ
فيا لك من ليّـل كأن نجـــومَه
بكل مُغـار الفَـتلِ شُـدّتْ بيَـــذْبُلِ
امرؤ القيس صور اللّيلَ والنهارَ متساويان في مقاساةِ الهموم، لأن نهارهُ يظلمُ في عينِه لتواردَ الهمومُ، فلم يتمنَ انجلاء اللّيل لأنه لا يقدرُ عليه، لكنهُ يتمناهُ تخلّصًا مما يعرضُ لهُ فيه، وكأنهُ لا يرتقبُ انجلاءها ولا يتوقعُهُ.
نحنُ كذلك نرجو أن يزولَ الحظرُ وترجعُ الأمورُ إلى سابقِ عهدِها دون أن يزيدَ الأمرُ سوءًا، لقد أرهقَنا الحظرُ بين الخوف والرجاء، وعلينا أن نصورَ عودة الحياة متفاؤلون دون تشاؤم حتى وإن كانتْ العودة للحياةِ تحملُ من الأخطارِ ما الله به أعلم وأن لا يكون لسان حال أمرؤ الحظر:
“ألا أيُّها الحظرُ الطويلُ ألا انجلي
بعودٍ للحياةِ ومالحياةِ منك بأمثلي
فيـــا لك من حـظرٍ كأن نجـومَه
سهامٌ من الموتِ به النفسِ تُبتلي“
وأخيرًا وليسْ آخِرًا: التعايشُ مع الفيروسِ يعد أمرًا لا بد منه، ولكن علينا العودةُ بحذرٍ والعملِ بالأسبابِ؛ فالحياة مليئة بأمراضٍ كثيرة ولم تقتصر بفيروس دون آخر وأسباب الموت كثيرة وما “كورونا ” إلاّ إحداها..!
كم من مريض آتته المنية ولم يعرفْ “كورونا” إلى خلاياه طريقًا..!؟
كم من شخصٍ مات ولم يطرقْ المرضُ جسدَهُ ..!؟
كم من شخصٍ مات في حوادثِ السياراتِ
وكم .. وكم .. وكم فالقائمة تطول ..!؟
لعلَّ أجمل تعبيرًا عن حالِنا في الأيامِ القادمة ما قاله بشارُ بن برد:
فَاِحمِلِ النَفسَ عَلى مَكروهِها
إِنَّ حُلوَ العَيشِ مَحفوفٌ بِمُــر
وَإِذا الأَمـــرُ اِلتَوى مِن بـــابِهِ
فَاِرضَ ما أُعطيتَ مِنهُ وَاِستَقِر
أسأل اللهَ أن تعودَ الحياةُ ونحنُ وأنتم وبلادنا وحكومتنا بأحسنِ حالٍ في أمانٍ وطمأنينة وسلامةٍ وخيرٍ .. ونحن نتذكر دائمًا قولًا وعملًا
” نعود بحذر ..!!!! “