منتدى القصة

الحداثةُ و مُرتكزاتُ الاحتفاءِ بالنَّصِّ الصوفي.. موقف أدونيس نموذجا

ينفردُ الاتجاهُ الحداثيُّ بموقفٍ خاص من التراثِ الشعري العربيّ – ومن كلّ ما يتصلُ بالتاريخ والحضارة العربيّة – وقد تأَسَّسَ هذا الموقف على مرتكزات أيديولوجية عُرفَ بها ، وصارت تمثِّلُ نظرته المعيارية في تقييم ما أُطلقُ عليه : ” الأغيار الأيديولوجية ” ، وعلى رأس هذه المرتكزاتِ : نقضُ العادة الفكرية ” وهو مبدأٌ ثوريٌّ – على الصعيد الأيديولوجي – يحتفي بالمغايرة الفكرية والإبداعية من خلال خلخلة الثوابت ، كما يحتفي – على الصعيد الجمالي – بــ” إدراك التماثلِ بين الطبيعةِ واللغة “، هذا الإدراكُ جزءٌ لا يتجزَّأُ من طبيعة الخطاب الشعري في النماذج العُليا من الشعر العبَّاسي ، والشعر الصوفي – في كل أزمنته ونماذجه – وقد بدأ هذا الإدراك – كما يقول أدونيس في ” سياسة الشعر ” : ” أبو نواس وأبو تمام وبعض شعراء الصوفية : الحلاج والنفَّري” 1) ؛ ممَّا يعدُّ عاملًا من عوامل احتفاء الاتجاه الحداثيّ بالنصّ الصوفي .

وقد أشار أدونيس أكثر من مرةٍ إلى أنَّ إعجابه بالسِّرياليين والرمزيين من شعراء الغرب هو ما ساعده في اكتشاف تفُرّد النص الصوفي باحتفائه بالطبيعة ، لا بوصفها مجموعةً متناثرة وقطعا جميلة ، بل بوصفها – كما يشيرُ في سياسة الشعر – جسدًا وكائنا رمزيًّا ، و ” مجموعةً من الإشارات، أي أنها تحولت إلى غابة من الرموز، هكذا أحدث هؤلاء انفجارا خلخل بنية التعبير الشعري. ” 2) لقد بدا النص الصوفي بهذه السمات نصًّا مستقبليا قابلا لإنتاج المزيد من النصوص المحتِضنة لمبدأ نقض العادة ، والقادرة على الاختلاف مع الماضي – والحاضر ذاته – كما بدا لهم نصًّا تخييليًّا يرتكزُ على الانفجار والهدم ، “وقد تعمق اليوم هذا الانفجار بحيث أنتجت الخلخلةُ التي أحدثها إلى تغيُّر في معنى الشعر وفي طبيعته” 3 ) . النص الصوفي – في الطرحِ الحداثيِّ – نص تخييليٌّ ، وفقَ مفهوم الحداثة للخيال ِ والتَّخييل – كما يبدو في قول أدونيس : “فالخيالُ بحسب هذا المعنى وسيطٌ بين النفس التي هي من عالم الغيب، والحسِّ الذي هو من عالم الشهادة، وهو مستودع تستمد منه النفس مادَّتها الأولية، وهو طاقة ابتكار حر بلا نهاية ، ونورٌ تُدرك به التجليات، أي أنه نور يمزق ستار الظلمة الذي يحجب الأشياء”4)

ومثلما أشار أدونيس إلى تأثره بالسرياليين والرمزيين – من شعراء الغرب – في تعرّفه على النصّ الصوفي ، يشيرُ في عبارةٍ أخرى إلى تأثره ببنية الثقافة الغربية في تعرّفه على الحداثة الشعرية العربية ، بما تتضمّنُ من التجربة الصوفية وعوالمها الفكرية والروحية والجمالية . يقولُ : “إنني لم أتعرفْ على الحداثة الشعرية العربية من داخل النظام الثقافي العربي السَّائد وأجهزته المعرفية ؛ فقراءة بودلير هي التي غيرت معرفتي بأبي نواس، وكشفتْ لي عن شعريته وحداثته، وقراءة مالارميه هي التي أوضحت لي أسرارَ اللغة الشعرية وأبعادها الحداثية عند أبي تمام، قراءة رامبو ونرفال وبريتون هي التي قادتني إلى اكتشاف التجربة الصوفية بمفرداتها ” 5 )

الحداثةُ – وفق هذا الطرح ليست زمنيةً ، بل هي موقفٌ خاص من الكون والوجود واللغة ، والروح ، وهي الحرية في النظر إلى السائد ، وهي القدرة على نقد الثابت وخلخلته وطرح بديل مغاير له ، على الصعيدين : الرؤيوي والجمالي . هذا هو المُشتركُ بين بعض شعراء العصر العباسي – ومنهم بشّار وأبو نواس و المعرِّي – وبعض شعراء الصُّوفيّة – ومنهم النِّفَّري – ؛ فبشَّار – في رأي أدونيس – “أستاذ المحدثين” ويتميّز – في رأيه – بأنه “سلك طريقا” ، ويبدو المعري وأبو نواس والنفَّري نماذج حداثية مميزة لما تمتعوا به من قدرة على تطويع الفكر للشعر، والمزج بين هذين العالمين بما ينقل اللغة إلى مجال الإلماح والدلالات العصية على اللغة التقليدية المباشرة ، وبهذا يتوفر للنص الإبداعي –على أيدي هؤلاء الشعراء – دلالتان: ظاهرية وباطنية ، بحيث يبدو الفكرُ أنه يتصاعد من الشعر، كما تتصاعد من الوردة رائحتها “6 ) . إنَّ الاقتدار على الفكري والفنّي ، والقدرة على مزجهما معا – بكيفية غير مسبوقةٍ – معيارٌ حداثيٌّ يقيسُ به أدونيس هؤلاء الشعراء – وغيرهم – يقول :
“أصف هذا النصَّ في نماذجه الثلاثة بأنه مقاربة معرفية للأشياء والإنسان ، تمتزج بالمؤثرات النفسية من جهة وتبتعد من جهة أخرى من العقل والمنطق: إنه المعنى في بِنية رمزية ، فلا فصلَ في هذا النصِّ بين ما نسميه الشعور وما نسميه التأمل والوعي. والشعرُ هنا رؤيا كيانية وتجربة نفسية تأملية وهو استبصار معرفي ، لكنَّ أداته ليست النقل وليست البرهان ولا المنطق، إنها الحدس أو البصيرة أو أن القلب لم يسلكه أحد ” 7 )
النصُّ الشعري الصوفي نصٌّ حداثيٌ في طرح أدونيس ؛ لأنه نصٌ فكريٌ تخييليٌ قادرٌ على إثارة القلق الفكري ، وخلخلة الثوابت ” فكري لأنه يخترق حقول المعرفة في عصورهم ( عصور شعرائه ) ، وينتج القلق المعرفي إزاء الدينِ والقيم والأخلاق، إزاء الله ، والغيب، الحياة والمعرفة ، وإزاء مختلف المشكلات الأخرى التي يواجهها الإنسان ، ولأنه يصدر عن هاجس الكشف عن الحقيقة، ومعرفة الذات والعالم” 8 )

وفقَ هذه الرؤية ، تتحققُ شروطُ الشِّعريّةِ – بدلالتها الحداثيّة – في النص الصوفي ، من حيث احتفائه بالرؤية والتفجير اللغوي والطبيعة الانزياحيّة للغة ، بما يجعله منفصلًا مهاجرا من أفق الطرح التقليدي المباشر الذي عُرف به الخطابُ الشعري العربي القديم، فهذا النص “يستخدم اللغة لا لكي يعبرَ بالكلمات – فهي عاجزة – وإنما لكي يعبر بما يقدر أن ينسج بها من علاقات هي رموز وإشارات.. فكأنها – بشكل مفارق- تعبر عما لا تقدر أن تعبر عنه ” 9)

من هذا المنطلقِ يواجهُ النصّ الصوفيُّ نصوصَ الشعر التقليدي مواجهة َ المُغاير – لا المنتمي – وذلك لارتكازه على مبدأِ ” نقض العادة الفكرية ” التي يرتكزُ عليها الخطاب الشعري القديم .

يبرزٌ هذا واضحًا في نصِّ النِّفَّري : “الغيبُ أو الباطنُ هو ما يحاوره النفري ، وما يحاول أن يستقصيه. إنه فضاء الكشف. ومن هنا تقتضي هذه التجربة للتعبير عنها كلاما يفلت في آن من المشترك العام ، ومن العقل والمنطق، ذلك أنها مما لا يقال. اللغة هنا مغامرة لقول ما لا يقال”10)

والنص الصوفي لا يُواجهُ السَّائدَ الشعري فقط ، بل يواجهُ الثوابتَ الدينية والفلسفية ، ويثيرُ ما يقلقُ المنظومتين ؛ ممَّا يدفعُ الحداثيين إلى اعتباره نصًّا حداثيًّا بامتيازٍ ، خاصةً النماذج العليا منه ؛ فهو “تجربة وكشف وليس دخولا في ما فُكِّر فيه كما هي الحال بالنسبة إلى النصين الديني والفلسفي وإنما هو دخول ما لم يُفَكَّر به : في المكبوت، في ما لا يزال مخبوءا وبعيدا، وهو – من ثم -يكتشف حقائق بطريقة لا تعتمد على التصديق الديني ولا تعتمد على الجدل العقلي البرهاني ” 11 )

ومن منطلقِ هذه الضِّدية للنصِّ الديني والفلسفي ، يُحققُ النصُّ الصوفيُّ شرطًا آخر مهمًّا من شروطِ الحداثةِ ، هو القطيعةُ مع الموروث ، ” يبدو نص النفري نصا يؤسس للحرية من حيث اقتداره على إحداث قطيعة مع الموروث في مختلف أشكاله وتجلياته، وبهذه القطعية يجدد الطاقة الإبداعية العربية، ويجدد اللغة الشعرية في أنه يكتب التاريخ برؤيا القلب ونشوة اللغة ” 12)

لم يكتف أدونيس – وغيره من شعراء الاتجاه الحداثيّ – بهذا التَّنظير الذي يبرزُ موقفهم الأيديولوجي من النصّ الصوفي ، بل وظَّفَ كثيرا من أساليب الأداء اللغويّ في احتفائه بالنص الصوفي ، من ذلك توظيف : التَّناص ، واستعمال البياض – أو توظيف الشكل الطباعي ، وأسلوب السخرية والتكرار والحذف والتنقيط – ممَّا يتطلّبُ دراسة نقدية تحليلية مستقلة – وذلك إبرازًا للتأييد الحداثي للنصّ الصوفي الذي يُواجهُ بالإقصاء من بعض رموز الفكر السائد ، ممَّا يُضفي عليه المزيد من سمات الاختلاف والضدية للثوابت الماضويّة .
——————

الأستاذ المساعد في تخصص الأدب والنقد
جامعة الباحة ( سابقًا )

—————-

ثبتُ الهوامش
1- أدونيس ، سياسة الشعر ، ص 166
2- سياسة الشعر ، دار الآداب ، بيروت ، 1985 م ص 166
3- المرجع السابق ، ص 168
4- أدونيس ، الشعريَّةُ العربيّة ، دار الآداب ، بيروت ، 1985م ، ص 69، 70
5- الشعريَّةُ العربيّة ، 86 ، 87
6- الشعريَّةُ العربيّة ، ص 74
7- الشعريَّةُ العربيّة ، ص 70 ، 71
8- الشعريَّةُ العربيّة ، 69 ، 70
9- الشعرية العربية ، ص 65 ، بتصرف
10- الشعرية العربية ، ص 64
11- الشعرية العربية ، ص 272
12- الشعرية العربية ، ص 66

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى