المقالات

يوميات جائع (٢)

الغبار عادة يثار عندما تحتدم المعارك ، وقال الشاعر قديمًا :
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
والنقع المقصود هو الغبار ، ويبدو أن صاحبي الجائع قد ارتاحت نفسه لحديثي ، فقد أقبل وغباره يسابقه ، حافي القدمين ، يرتدي زيًا رياضيًا أصفر ، طبعت على صدره خريطة المملكة ، وسروال أخضر على حافتيه خطوط بيضاء ، مزقته الأيام، وبدأت الركبتان خجولتين مع فتحات قُدّر لها أن تتنفس الهواء الطلق ، وقد ظهرت عليها بعض المخوش (إصابات ملاعب!!) تعاورتها سِنِي الجفاف والهدم ، وأقدام تآكلت الحواف منها ، وظهر على الإبهام (إبهام القدم )قساوة السنين ، حيث تخثر عليه الدم ويبس ، بينما الأظافر ذهبت أدراج الرياح ، وكأنها بقايا لوح خشبي هرب بعض لحائه ، فسألته : أي النوادي تحب ؟ وش معنى نادي يتساءل ؟ قلت : كرة القدم اللاعبين ..!!
فقال : أحب المنتخب ؛ أحب ماجد عبدالله ، وفي أي نادٍ يلعب لاعبك المفضل ؟ قال : لا أعرف ، بس أسمع فلان يقول : ماجد يجيب أقوال(أهداف) كثيرة ، بالرأس والرجل اليمنى واليسرى ، وتحمّس وقال : وأحيانًا بالركبة ، قالها : وهو يمط شفته السفلى ويقلبها ، يقولها وعنده شك في صاحبه ، وسيلة الإعلام الوحيدة لنقل أخبار العالم ، جلس بجانبي وهو ينكت في الأرض بأصبعه السبابة ، يقول : أنا لا أحب المدرسة ، أبغى (أصير) أكون لاعب مثل ماجد اللي (الذي )يقولونه .
لاحظت عليه علامات الجهد والجوع ، فقلت له : أي الطعام يحلو لك ؟
فقال على الفور : الرز واللحم ، المندي ، أحب الرز الأصفر أبو زبيب ، يقولها وهو يتلمظ …الزبيب والزلطة( السلطة )، آهـ آهـ مليت من القرص والشاهي ، ودي أروح للطايف آكل تميس ورز مندي ، وأشم رائحة الزفلت ( الأسفلت) ، وأسمع بواري السيارات ( المنبه)عند الصباح الباكر ، أبي بسكليته (دراجة هوائية ) أبي أطلّق الفقر إلى الأبد ، قلت له : لن يتحقق حلمك في الرز والتميس والأسفلت والبوري إلّا بالاجتهاد في المدرسة ، قال : أنا ما أحب المدرسة ، ولا أحب الأستاد ( الأستاذ) فلان(……) كرهني وعقدني ، لماذا ؟
مرّة أكلت العنز كتابي ، وجئت ببقاياه معي ، وحرصت على إخفائه ، لكنه أخرجني عند السبورة وعلّم الطلاب في الفصل ، وفرشني على رجولي (فلكه)، يقولها وهو يقلب أقدامه ، ويتمتم بكلمات غير مفهومه (……ملعون الوالدين …) ، لو أشوفه ( ……..سابع جد له ) .
كان الجو باردًا ، وبدأ يرتجف ، وينظر إلى السماء ، وكأنه يدعو بالفرج ، …… تدري ليه الجوع كافر ، ما يرحم أحد ، معك تاكل ، ما معك تاكل (…….) تاكل هوا ؟؟
يقولها وقد جاد أنفه بأنواع التكتلات المخاطية ، وهو يمسحها بطرف كم البدلة الصفراء المهترىء… ، وقد ترك الزمن بعض البقايا في طرف الخد الأيمن ، جاء المسح على الطري منها ، أمّا الذي يبس ، فبقي كعلامة للجودة وعناد السنين !!
الجوع ما يعرف إلّا الفقراء مثلي ، ليش اللي عندهم قروش ( المال ) ما يعطون اللي مثلي ، ودي أشبع بس يوم واحد وبعدين أموت .
الزمن لا يرحم أحدًا ، بشر تلقي الطعام بدون كيل في حاوية النفايات ، وصاحبي يلهث من أجل الحصول على رز أصفر وزبيب ، عجبًا للدنيا ، لاتروق لأحد ، ولا تصفو مشاربها لظامىء!!!!
تعرف أمثالنا من الفقراء سيحاسبون الأغنياء البخلاء يوم القيامة ، أنا لوعندي مليون أشتري رز ولحم كثير وأوزعه بلاش (بالمجان )، ما أترك أحد يجوع ، ويبدو أن موعد التمثيلية اقترب ، فصلاة المغرب على الأبواب ، ففرّ هاربًا كعادته وهو يقول بصوت مرتفع : وذّن وذّنْ …… وصدى صوته قد اختلط بنغمة حي على الصلاة…. !!

Related Articles

One Comment

  1. جميل ، وصف دقيق لحياة بائسة من كل النواحي
    جوع وفقر وعزوف عن العلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button