(ف-نار)
لا أظنُّ أنّ ثـمّـةَ ما يَفُوقُها خُصومةً لبني البشر، فعلى قدرِ ما أُوتيَ الإنسانُ من قُدراتٍ عقليّةٍ عظيمةٍ يكتشفُها في نفسِهِ يومًا بعدَ يومٍ، فيُسخِّرُها لتطوير ذاتِهِ وتحسينِ ظُروفِ معاشِهِ، حتّى لَكأنّهُ سيخلدُ في هذهِ الحياة معَ علمِهِ أنّ الموتَ أقربُ إلى نفسِهِ مِن نَفَسِهِ، فلم يَتسلّلْ إليهِ السَّأمُ من الجري حتّى اللُّهاث وراءَ كلِّ ما يُبقيهِ على قدرٍ من القُوّةٍ واللياقةِ البدنيّةِ والنَّفسيّةِ والعقليّةِ، لكنْ يبقى أمامَهُ خصمٌ عنيدٌ لم يَتمكّنْ من قهرِهِ منذُ بدءِ الخليقة، ومعرفةِ الإنسانِ بطرائقَ ووسائلَ شتّى للتَّغلُّبِ على كلِّ ما يَترصّدُ لهُ؛ ليَعُوقَهُ عن مُواصلةِ سَيْرِهِ، وتحقيقِ أُمنياتِهِ وطُموحِهِ وجُموحِ أحلامِهِ، كما الشَّيخُوخَة.
إنّها تبدأُ بتهديدِهِ منذُ تكوينِهِ، إذْ تشيخُ بعضُ خلايا جسدِهِ بالتَّوازي معَ ولادةِ خلايا جديدةٍ ونُـمُوِّها تكونُ أطولَ عُمرًا، وهو لا يزالُ جنينًا في بطنِ أمِّهِ، ومعَ مُرورِ الأيّامِ، وبعدَ ولادتِهِ يزدادُ نُـموًّا، ويمتلئُ بالحيوية والنَّشاط، ويبدأُ جهازُهُ المناعيُّ باستقبالِ مُحفِّزاتِ تقويتِهِ، ومعَ مُرورِ الوقتِ وبُلوغِهِ مرحلةَ الشَّباب لا يَخطُرُ لهُ أنّهُ يحملُ في داخلِهِ معاولَ هدمٍ نَصَبَها خصمُهُ الّذي يَتربّصُ بهِ، وهو في غفلةٍ من الشَّبابِ والعُنفوان معَ أنّهُ كان مُحاطًا بكثيرينَ ممّنْ تَخطَّوا مرحلةَ الشَّباب إلى الشَّيخوخةِ أو الهرم، وكان بعضُهم قد أصابَهُ الخرفُ معَ ما كانَ عليهِ في عهدٍ مضى من عقلٍ وحكمةٍ، وتَفجُّرٍ في الطَّاقات وأملٍ لا يُحَدُّ في بُلوغِ أُمنياتٍ جعلتْهُ يظنُّ أنَّ مِثلَهُ لن يهرمَ، أو إنْ هَرِمَ فلن يفقدَ السَّيطرةَ على قُواهُ العقليّةِ والجسديّة.
لَكأنِّي بالشَّيخوخةِ هيَ إبليسُ الّذي يجري منِ ابنِ آدمَ مجرى الدَّم، أو أنّها اشتُقَّتْ منهُ، لأنَّهُما مُتماثلانِ في الإصرار بلا يأسٍ على تحقيقِ مآربِهما في إلحاقِ الأذى بابنِ آدم والنَّيلِ منهُ بكلِّ شكلٍ وطريقة. وكما أنّنا نقاومُ بطشَ إبليس بالرّقيةِ وتلاوةِ المُعوّذات والأدعية، كذلكَ فإنّنا نلجأُ إلى مُقاومةِ الوجهِ الآخرِ لهُ، وهو الشَّيخوخة، بابتكارِ آلافِ الأنواع من الأسلحةِ لِرَدْعِها وإيقافِها عندَ حدِّها، ولم نُفلِح. وإنني أحسبُ أنّها في كلِّ مرّةٍ يُعلِنُ فيها بشريٌّ تَوصُّلَهُ إلى طريقةٍ أو مادّةٍ تُؤخِّرُ تَقدُّمَها نحوَهُ، أو تُخفِّفُ آثارَها، تنظرُ إليهِ بعينِها الوحيدة أو رُبّما بآلافِ العُيونِ المُترصِّدةِ نظرةَ المُتعالي الهازئ بمَنْ دُونَهُ والمُطْمَئِنِّ بتَفوُّقِ أسلحتِه.
وإذا لم تكنْ ثمّةَ علاقةٌ بينَ الشَّيخوخة والفناء (الموت)، فلمَ يموتُ الإنسانُ وهو في قمّةِ قُوّتِه؟ أم أنّ الشَّيخوخةَ صديقٌ يَتمظْهَرُ بالعداوةِ؛ لكي لا يحزنَ الإنسانُ على نفسِهِ حينما يشعرُ بدُنوِّ أجلِهِ، فلا يأسف على الحياة، وحينئذٍ يعيشُ ما تبقّى من أيامِ حياتِهِ بلا قلقٍ من الموت؟ ويُباغِتُني سُؤالٌ بينَ فينةٍ وأُخرى، كيفَ حقّقَ الإنسانُ ما حقّقَ من التَّفوُّقِ الماديِّ والعقليِّ على كثيرٍ من قُوى الطَّبيعةِ، وهزمَ جَبرُوتَها، وسَخَّرَها لتحقيقِ مآربِهِ، ولم يقوَ على إيقافِ زحفِ الشَّيخوخة فضلاً عن هزيمتِها؟
بعضُ أهلِ الخيالِ العلميّ تَفوّقُوا في ابتكارِ أفكارٍ تقنعُ الإنسانَ بأنّهُ سيُحقِّقُ لنفسِهِ أمانيه الّتي لا تنفكُّ تُلاحِقُهُ من ساعةِ رُشدِهِ إلى نهايتِهِ، ومن ذلكَ أنّهُ لن يَتغلّبَ على الشيخوخةِ ويُجَنْدِلَها فحسب، بل سيُعيدُ العُمرَ إلى الوراء، فمن كانَ عُمرُهُ الآنَ ثمانينَ، فبضغطةِ زرٍّ يُطْلَقُ في مركبةٍ؛ خاصّةٍ إلى الفضاءِ البعيدِ حتّى يصلَ إلى نقطةٍ ينعدمُ فيها الزَّمان، وبعدَها يعودُ هذا الشَّخصُ شابًّا يافعًا أو طفلًا شغوفًا بالحياة، فهل سيَتحقّقُ ما أنتجَهُ جنونُ الخيال أم هو حقيقةٌ تنتظرُ حينها؟
فعلا ان اعتى الخصوم هي نفس الإنسان التي تتعدى على غيرها مقال جدا جميل كجمال روحك بوركتي
العزيزة خلود
سعدت بمرورك وأعتز برأيك فلك تقديري ومحبيتي.