المقالات

تهذيب للنفس عبر الزمن

عندما كُنت في سنوات الجامعة، مُفعمًا بالطموح، مُتوقعًا أنني سأملك خزائن الدنيا ذات يوم، حينها لم تكن الحياة قد كسّرت مجاذيفي بَعد، ويومًا في مسجد حيّنا وبالتحديد في صلاة الجمعة:

رأيت رجلًا كبيرًا بالسن، بدا لي مألوفًا، معتدل البنية، ليس بالطويل ولا بالقصير، واضح أنه تأخر عن الحلاقة لمدة طويلة، أصلع الرأس إلا من بعض البُقَع، يلبس ثوبًا أبيض عاديًّا، وتظهر عليه علامات الكفاف، علامات ذلك الرجل الكادح من الطبقة المتوسطة.

تعرفونه جميعًا، ذلك الرجل الذي ينقضي راتبه قبل منتصف الشهر. ذاتهُ صاحب المركبة بنظام التقسيط، والشقة المُستأجرة، ذلك المشهور في مجتمعنا، شاهدته يصلي مع ولده تحية المسجد.

لا اعلم لمَ لفت نظري ذلك المشهد، لعله الشيطان لألغو عن الخطبة أو ربما هي مجرد صدفة، استمرّيت بمراقبته، لعلي أعلم ما شدني للانتباه له، كنت متأكدًا أنه أحد أعرفه معرفة وثيقة، لكنني لست أتذكر من هو، ملامحه الساكنة، وجهه المُنكسِر، كل ذلك كان يدق أجراسًا في ذاكرتي.

وفجأة عَرفته، تذكّرت من هو، اصطدمت بتلك الحقيقة، ولو أنها كانت اقرب للوهم منها للحقيقة، عرفت أخيرًا: ذلك الرجل هو أنا !!!، كيف؟!

لأنه يٌشبِهني، وكأنني أنظر لمرآة عبر آلة زمنية تكشف المستقبل..

أنه يشبهني تمامًا !!، له ذات العينين، ذات الأذنين، ذات الأنف الطويل، ذات الرأس فاقد الشعر، ذات الطول والعرض وذات الملامح، كان يشبهني؛ وكأنه صورة مستقبلية لي.

ماذا لو كان ذلك الرجل هو أنا ؟!، بعد ٢٠ عامًا من الآن؟؟

كان الأمر صادمًا لي كشاب متفائل، فليس هذا ما كنت أطمح إليه، كنت أطمح لكل ما يطمح له كل شابٍّ في هذه الدنيا عندما يكبر. المال والجاه والصحة والعلم والشهرة والنفوذ والهيبة والأناقة والحلم والحكمة، كل ذلك بشكل مثالي.

دعني أخبرك أمرًا، لا شيء يومها كان مثاليًّا في حياة ذلك الرجل، ليس بالنسبة لي حينها على الأقل،

جعلني ذلك أفكر، كل هذه الأحلام، وكل هذه الطموحات، مبنية على أحلامِ وطموحات اخرى. ولكن ماذا سيحدث إذا اتخذت منعطفًا خاطئًا أو قرارًا فاشلًا أو تغيرت الأحوال والظروف؟؟

هل سيتهدم صرح أحلامي على اساسه غير المطابق للخطة؟

هل أقبل بمثل هذا المستقبل؟

هل لن أسكن في قصر، بل سأستأجر شقة، وأسعى في الأرض لتأمين كلفة إيجارها؟

هل لن تكون لدي القدرة على شراء سيارة؟

هل سترهقني القروض والأقساط؟

ولكن

أليس هذا أفضل من كثير من البشر بالرغم أنه تحت الطموح؟؟

ألا يجب أن أحمد الله على ما نحن فيه ؟؟، هل يعتبر ذلك الرجل نفسه أنه يتقلب في بحرٍ من النِعَم.

ماذا لو تغيرت الظروف؟ قد يصبح الامر أسوأ !! قد اضطر لأن اتذكر ذلك الرجل، على أنه النسخة الناجحة مني!! كل شيء وارد، فقد قال تعالى في سورة آل عُمران: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)).

كل هذه الأفكار، مرّت بسرعة، لم أفكر بالأمر طويلًا. انتبهت وإذا بالإمام يُنهي الخطبة الأولى، علمت أنني قد فوّتت على نفسي الكفاية، وقررت الإنصات لبقية الخطبة وعدم التفكير في الأمر مجددًا، بل سأتفاءل وأعمل جاهدًا، وأحمد الله، وهذا كل ما علي فِعلُه، وسأقوم بإغلاق باب الهرطقة هذا للأبد.

ثم تُواسيني الأقدار بعدها وأنا أسمع الإمام يقرأ قوله تعالى من سورة البقرة: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)).

——————

@ Hussam_9414 –

2 Comments

  1. أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً

    1. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله جل جلاله.
      شكراً لتعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button