إن المتتبع لمراحل تطور التعليم الجامعي لا بد له أن يتوقف عند مرحلة تاريخية هامة من مراحل تطور الجامعات الأوربية والأمريكية، وهي المرحلة التي انعزلت فيها الجامعات عن مجتمعاتها، وكان ذلك في عصر النهضة وبداية العصر الحديث، ففي الوقت الذي شهدت فيه المجتمعات الغربية تحولًا اجتماعيًّا كبيرًا، إلا أن الجامعات قد حصرت نفسها في وظيفة التدريس فقط، الأمر الذي نتج عنه تراجع دورها في إفراز تيارات فكرية جديدة داخلها، مما أدى إلى تهميش الجامعة اجتماعيًّا وظهور الإبداع العلمي والتكنولوجي من خارجها، كما برز أغلب المفكرين من خارج أسوارها.
ولم تستعد الجامعات مكانتها إلا بعد تواؤمها مع حركة التغيير الاجتماعي وتفاعلها مع مجتمعاتها وتعاونها مع مؤسسات سوق العمل؛ الأمر الذي أسفر عن ظهور أنماط مختلفة من التعليم تلبي احتياجات سوق العمل، وتنمي موارد الجامعات بما يضمن استمرارها، ويزيد من فاعلية أنشطتها. الجامعات السعودية وخلال السنوات الماضية رفعت شعار ربط التعليم الجامعي باحتياجات سوق العمل، ومع ذلك مازالت المخرجات دون الطموح؛ وذلك لأسباب كثيرة يطول الحديث عنها، ولكن يأتي في مقدمة تلك الأسباب؛ فلسفة العلم من أجل العلم، وهي فلسفة عفا عليها الزمن لكنها مازالت فكرة دوغماتية تعشعش في أذهان الكثير من الأكاديميين لم تتغير عبر الزمن.
كثير من الأكاديميين يفتقدون للتجربة العملية في مجال التخصص، وبالتالي يصعب على شخص يمارس التنظير داخل القاعة لعقود من الزمن أن يتخرج على يديه طالب متسلح بالمهارات اللازمة في مجال تخصصه، والأسوأ من ذلك أن البعض يكمل ضعف التجربة بتجاهل أبسط سلوكيات وأخلاقيات العمل التي يحتاجها الطالب؛ فتجده لا ينضبط في حضور المحاضرات ولا يلتزم بالساعات المكتبية التي حددها بنفسه، ولا يراعي أسلوب التواصل مع طلابه. أنا لا أعمم وأعلم أن هناك أساتذة أفاضل تعلمنا على أيديهم الكثير واستفدنا من خبراتهم وتجاربهم الشيء المفيد في حياتنا العملية، بل ومازالوا مرجعًا لنا نسترشد بآرائهم عندما نحتاج مشورتهم، لكن ذلك لا يمنع أن نشير لبعض مواطن الخلل حتى، وإن كانت قليلة.
(علم بلا عمل غباء، وعمل بلا علم وباء)، هذه العبارة ربما لم تستشعر جامعاتنا أهميتها خلال العقود الماضية؛ كون دور الجامعة ينتهي بمجرد استلام الطالب وثيقة تخرجه. أما بعد ذلك فحصول الخريج على فرصة عمل مناسبة لتخصصه من عدمها تظل غير مؤثرة في قرارات الجامعة أو خططها ولا حتى في مداخيلها؛ كونها تعتمد كليًّا في مواردها المالية على دعم الحكومة، دونما أي تأثير أو تأثر بالخريج أو سوق العمل أو المجتمع.
اليوم وبعد صدور نظام الجامعات الجديد وتحديد ثلاث جامعات للبدء في تطبيق هذه التجربة؛ فإن الأمر يحتم عليها تغيير فلسفتها في الكثير من الجوانب بدءًا من الجوانب التنظيمية وضرورة الاعتماد على الهيكل الرشيق الذي يخدم الجامعة بأقل الموارد، والتخلص من الترهل التنظيمي والبطالة المقنعة التي غرقت فيها الجامعات على مدى عقود، سياسة التوظيف هي الأخرى ستنقلب رأسًا على عقب، فالجامعة غير ملزمة بالإبقاء على شخص غير منتج، وربما ليست في حاجة إلى تأهيل شخص وابتعاثه وصرف آلاف الريالات عليه وانتظار عودته لسنوات، ناهيك عن الفترة الزمنية التي يحتاجها بعد عودته لاكتساب الخبرة المناسبة، فالنظام الجديد يتيح للجامعة حرية التعاقد بشكل سنوي، والفرصة متاحة أمامها لاستقطاب أفضل الخبرات وأصحاب التجارب الثرية في سوق العمل وربما بتكلفة أقل. والأهم من ذلك كله أن احتياجات المجتمع ومتطلبات سوق العمل سوف تكون هي المحددة لنوعية وكمية مخرجات التعليم الجامعي.
وبدون أدنى شك فإن الجامعات أمام تحدٍ كبير من أجل التغيير، ولكنه ليس بالأمر المستحيل، وإن كانت التحديات والمنافسة ستبقى مستمرة في ظل تعدد مؤسسات التعليم العالي وطبيعة التغيير المستمر في احتياجات سوق العمل كما هو الحاصل في جميع بلدان العالم، فهذا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوقع قبل أيام أمرًا تنفيذيًّا بتوجيه تعليمات لفروع الحكومة الفيدرالية، بالتركيز على المهارات بدلاً من الاعتماد على الشهادات الجامعية في اختيار الموظفين الفيدراليين، وكانت مستشارة الرئيس الأمريكي قد أوصت الحكومة الفيدرالية بإعادة وضع استراتيجية توظيف وإعطاء الأولوية لمهارة الوظيفة مما يجعل الدرجة العلمية والشهادة أقل أهمية، وتعتقد أن ذلك سيحسن وضع القوى العاملة، والأمر سيمتد لتشجيع الشركات الخاصة على اتباع هذه السياسة؛ مما سيحتم على مؤسسات التعليم تغيير خططها وتطوير مناهجها وفقًا لهذا التوجه الجديد.
——————————————————
• عضو هيئة التدريب بمعهد الإدارة العامة.
مقال أكثر من رائع صور البعد الحقيقي لأسباب نظام الجامعات الجديد نتمنا نجاح هذه الخطوة.