مما قاله للريح وهي تنسج الوقت برفق:
لنفترض أنّ آدم واصل الطريق وحده ولم يلتفت لضلعه، تجاهل الطَّرَقات التي قالت له: افتح، أنا حواء، ثم مضى باتجاه قواقع البحر، أو نباتات الصحراء، أو ما شاء مما يراه حوله. كيف سيكون شكل الحياة؟ الذين لا يعوّلون كثيرا على المرأة سيفترضون أنه في الإمكان العيش بدونها، والتناسل ولو من حيوان الإسفنج النابت في الماء، ثم التحليق بعيدا عن تعقيدات وجود الأنثى في الحياة، هذه التي تربك آدم وأبناءه في طريق العودة إلى النبع. ثم؟ لا أدري، المهم أن (ثم) هذه لها ما بعدها من أشكال وإشكال الحياة.
أما الذين يرون الحياة لا تستقيم بغير المرأة فيدركون تماما أنّ وجودها ترويض لأمواج البحر، ودوزنة لهفهفات الرياح في الصحراء واكتشاف للعالم، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك، إذ لو لم يستجب آدم لطقطقة الضلع الأعوج لما استقام له الطريق وربما انطفأ العالم، وظلت يده تتلمّس الخلاء والعدم.
أنا بوصفي أحد هؤلاء الآدميين الذين وفدوا إلى العالم بضلوع عوجاء، يقول، أقف على الحياد، فأرى في المرأة العذوبة والعذاب، الألق والقلق، الاستقرار والشتات، وأحاول قدر الإمكان أن أحافظ على المسافة الافتراضية بيني وبينها. أحعل بابي مواربا كي تبقى ضلوعي كما هي متاحة للدخول والخروج معا، لاعتقادي أن هذه المسافة هي التي تضمن لك أن تكتشف العالم بقواقعه البحرية ونباتاته الصحراوية، وهي ذاتها المنطقة الحدودية بين الماء واليابسة. وعلاقة الرجل بالمرأة هي في حقيقتها علاقة الماء باليابسة، والصحراء بالبحر، لا يندلق هذا ولا تتيبّس تلك، علاقة كونية تختزلها حركة المد والجزر بين الماء والرمل.
ها، ثم ماذا؟ يضيف، أحبّ المرأة التي تلهم، ليس بالضرورة أن تكون حبيبة مستلّة من أفلام وروايات، بل من الضرورة ألا تكون كذلك، لتخلو بقلبي فتحيله إلى سماء مفتوحة وكواكب سيّارة، ونجوم وأفلاك، ولها عليّ إن صنعت ذلك أن أصنع منها مدارات تحيط بي من كل أفق.
إيه، هذه المرأة يمكن أن تراها في كل امرأة بشرط أن تختزلها في شعورك وتعيدها كرة أخرى إلى النبع، وراء الضلع الذي طرقته قبل أن تنفتح لها نوافذ العالم الخارجي، قبل أن تنفض جلدها على ساحلك كأي عروس بحر قادمة من الأعماق.
أيّ أعماق؟ الأعماق السحيقة في هذا الكائن الممهور بالرحيل في الأرض والسير في مناكبها، الرجل الذي سال كقطرة من فم الغيب ثم لم يعد في إمكانه الرجوع مرة أخرى إلى خزفه القديم.
قال هذا الكلام وأنصت قليلا. أرهف سمعه ليلتقط شيئا من صرير النسيج الذي تلوكه الريح في رفق كما يليق بامرأة وهبها الله القدرة على حوك الزمان.
وحين لم تجب، خطر في نفسه أنها آمنت بمنطقه، أو لعلها فكّرت في الأمر على العكس مما فكّر فيه. لكن لماذا لم تقل شيئا وهي قادرة على أن تتحدث في أكثر من شكل؟. نعم، أكثر من شكل، وربما كان أقرب الأشكال إليها وأحبّها أن تهطل كالمطر.
حسنا، قال، لا يهم ما تقولين؟ المهم ماذا فهمت من صمتك، إذ يبدو أنك مثلي حائرة بين زمنين، وهي الحيرة التي جعلتني أرتدي جلبابا قديما أكثر من مرة غير مبال بما يقوله الناس المصابون بفوبيا إثبات الذات وسحر الشخصية.
كانت الريح لا تزال صامتة تنطوي على أسرار كثيرة، لكنها لم تكن تتحدث إلا بقدر ما تهمس بحركة اعتادها قبل أن يفقد حساسية أذنه التي لم تعد تلتقط سوى صوت النقرات وهي تعزف على لوحة المفاتيح.
في ذلك المساء، كان يتأمّل اوّل ليلة من ليالي القمر، قبيل انصرام عام كورونا الذي حشر العالم كلّه في زاوية الحذر، وكان الصيف في أوجه، رغم ما تلقيه الرياح من بقايا مطر متقطع يأتي من أقاليم بعيدة لا يلبث أن يكفّ فور أن يلقي رشة خفيفة لا تبلّ ثرى ولا تسري في عروق. قال، وفي ذهنه يلوح طريق طاعن في الأفق:
كيف يتسنّى لي ملء فراغ هذا الفضاء الممتد الذي تلوح لي فيه ظلال الغائبين ووجوه القادمين في مسارين متخالفين، لا يمكن لمثلي أن يحصي مفارقاته في ليلة أقصر من نهارها؟
وعلى الفور نظر إلى ساعته، وهي تشير إلى الحادية عشرة ليلا، وأردف:
عند بلوغ الساعة الثانية عشرة يبدأ الوقت في الانكسار باتجاه القلق الذي يعتادني في مثل هذه الحدود الفاصلة بين الأشياء.
هاه، تكلّمي أيتها الذكرى الصامتة. قولي شيئا ولو بمقدار قرقعة كيبورد، أو صرير نافذة صدئة.
ألقى عبارته الأخيرة، وبعد يأس من الكلام المباح أطفأ النور، ثم أغلق ليله وغرق في حلم قديم!.
سعود الصاعدي