في أزمنة مضت، كانت الطريقة الوحيدة للسيطرة على بلدٍ ما تكمن في استخدام القوة العسكرية، ثم استهداف العقول والقلوب بنشر العقيدة وكسب الولاء، ومعاقبة المعارضة بالحديد والنار، وبالنفي والتهميش. هكذا بنيت الإمبراطوريات، وتوسعت الممالك في القرون الأولى، وهكذا استعمر الغرب بلاد الشرق ونشروا أديانهم وثقافتهم ونصبوا الموالين لهم من أبناء المستعمرات، وحكموهم على الرقاب، وغضوا الطرف عن فسادهم وسفههم وتجبرهم على أهلهم.
وبعد الحرب العالمية الثانية، تفككت المستعمرات، وخرجت بلدان العرب والمسلمين من تحت مظلة الغرب النصراني والشرق الشيوعي والحكم العثماني. استقلت بلدان شكلًا، ولم تستقل حقًّا. بقي عسكر المستعمر في الحكم، وأنشأوا جمهوريات تُدين بالولاء للمستعمرين الجدد. أولئك الذين لا يحكمون بجيوشهم بل بثقافتهم، ويسيطرون لا بأبنائهم بل بأبناء العرب والمسلمين المغترين بتمدن المستعمر وقيمه وإنجازاته. على أن المستعمر لا يختار لهذه المهمة أفضل العقول، وأطهر القلوب؛ حتى لا ينقلبوا عليه، وينحازوا لعقيدتهم وقيمهم وأوطانهم، بل أقل الناس حكمة وعلمًا، وأكثرهم ضعفًا وغلًا، من الأقليات والمراهقين ومدعي المظلومية، يعدونهم بالمن والسلوى، بالتمكين والتحسين، ويغدقون عليهم التمجيد والتدليل.
وفي بداية الألفية، وبعد أحداث سبتمبر ٢٠٠١، أنتفض الغرب وقرر أن يغير إستراتيجيته التقليدية التي تعتمد النفس الطويل لبث الثقافة وكسب الولاء وإعداد الطابور الخامس، واعتمد أسلوبًا جديدًا يجمع بين القوة الخشنة والناعمة. فسياسة الفوضى الخلاقة تعتمد على إثارة الصراعات الطائفية والعرقية والتاريخية والفكرية، وتدريب العملاء والناشطين عن طريق المنظمات الحقوقية والمجتمعية بأسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، التطور والمدنية.
تم تنشيط الدورات التدريبية وبرامج تبادل الطلاب والمؤتمرات الشبابية والملتقيات الفكرية والإعلامية. وعقدت هذه الأنشطة في صربيا وعواصم أوروبية وعربية. وكان من بينها مركز تدريبي للناشطين في صربيا، وملتقى النهضة التابع لمجلس علماء المسلمين برئاسة يوسف القرضاوي. ومن خلال هذه المراكز تم استقطاب الشباب والشابات لتلقينهم القيم الغربية وتدريبهم على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والنت والتجمع والتواصل السري، وبث الرسائل الموجهة عبر خلايا رقمية، وأساليب التخفي من رقابة الأجهزة الأمنية العربية، ومواجهة قوات مكافحة الشغب.
وفي كل مرة يقع أحد أعضاء هذه الشبكات في قبضة الأمن تنشط أجهزة الإعلام العربية والدولية المتوافقة مع المشروع، وتكثف حملات المطالبة بفك سراحهم من منظمات وشخصيات حقوقية ومجتمعية متاءمرة. كما يقدم هؤلاء للرأي العام الدولي على أنهم يعتبرون مناضلين من أجل الحرية والديمقراطية، ويتم تكريمهم ودعوتهم للمؤتمرات والملتقيات الدولية بصفتهم مثقفين ومفكرين يعبرون عن التيارات الشبابية والليبرالية في بلدانهم.
هذه المؤامرة الغربية التي تم الاتفاق عليها مع التنظيم الدولي للأخوان المسلمين وتركيا وقطر وإسرائيل، واللوبي الإيراني الليبرالي في الغرب، أسفرت عن كارثة ماسمي ب“الربيع العربي“ وهو نسخة من ”الربيع الأوكراني“ الذي استخدمت فيه نفس الأدوات والأساليب حتى أسفر عن تمرد أوكرانيا وخروجها من المعسكر الشرقي الى المعسكر الغربي. إلا أن فشل الإخوان ورعاتهم في العالم العربي، وفشل إيران ومليشياتها في إدارة الدول التي وصلوا إلى سدة الحكم فيها وانكشافهم أمام شعوبهم أوصل المشروع إلى غير ما انتهى إليه مشروع أوكرانيا من نجاح نسبي.
تنبهت المملكة ودول الخليج (ناقص قطر) إلى هذا المخطط الذي كان يستهدف قلب أنظمة الحكم فيها وتقسيم بعضها وإيصال الإخوان المسلمين إلى السلطة تحت المظلة الأمريكية وبتوافق إيراني تركي إسرائيلي، فدعمت ثورة مصر الثانية ضد حكم الجماعة وواجهت المخطط على كل جبهة بما فيها اليمن والبحرين والإمارات والكويت والأردن والمملكة، حماهم الله. فصمدت هذه البلدان، ما عدا اليمن، الذي انقلب على المخطط الأخواني فيه الحوثيون بدعم إيراني-قطري، فانتقل أكثر عناصر الشبكة إلى خارج بلدانهم؛ ليواصلوا المسيرة في الدوحة وأسطنبول ولندن وتورنتو وواشنطون وغيرها من العواصم والبلدان. وبقي طابور خامس يراهنون على دعمه إعلاميًّا ودبلوماسيًّا، والاستفادة من أي ردة فعل أمنية أو قضائية على استفزازاته.
يقود هذا المخطط حلف (غير مقدس) بين الليبرالية واليسارية العالمية من ناحية، والإسلام السياسي الممثل في السلفية الأخوانية، والصوفية التركية، والشيعية الإيرانية، من ناحية أخرى. يحذو الجميع نحو هدف واحد، الهيمنة على العالم العربي من خلال القوة الناعمة وصولًا إلى السلطة المطلقة.
على أن خروج أمريكا اليمينية في عهد الرئيس ترامب من قيادة المشروع المدمر، وتراجع الموقف البريطاني المحافظ، وخروجها من الإتحاد الأوروبي، أضعف المشروع. وربما لهذا السبب نشطت كندا في عهد حكومتها الليبرالية الحالية، لملء الفراغ رغم حداثة خبرتها بالسياسة الدولية وضعف مكانتها على الخارطة السياسية العالمية. وكانت نتيجة الإندفاع غير المدروس هذه السقطة المدوية في المواجهة مع المملكة العربية السعودية، بثقلها العربي والإسلامي والدولي، ومكانتها الإقتصادية والسياسية على خارطة العالم، وحنكتها وخبرتها في مواجهة المؤامرات.
آن الأوان للمراهنين على مشروع ”الفوضى الخلاقة“ بقيادة الصليبية الجديدة والإسلام واليسار السياسي والصهيونية والليبرالية العالمية أن ينفضوا أيديهم منه، بعد أن تكشفت مخططاته وتقطعت خيوطه وتراجع أكبر داعميه. فمشاريع التدمير والهيمنة لا تعمل إلا في الظلام، وفضح المستهدفين، وتحالفهم بقيادة بلاد الحرمين أضاعت عليهم عنصر المفاجأة وميزة التخفي. ومع العقوبات القاسية التي يتلقاها المشاركون دولًا ومنظمات وجماعات وأفرادًا، أصبح ميزان الخسارة أثقل بكثير من ميزان الكسب، وفرص الفشل أكثر من فرص النجاح، والمزيد من التورط لن ينتج عنه إلا المزيد من الخسائر وهدمًا لما تبقى من جسور العودة والتراجع.