قال صاحبي: لم يكتفِ هتلر الأناضول بإحراق الأرض العربية بنيرانه ومرتزقته، فتحول نحو الشمال الأفريقي والجنوب الأوروبي، فما تمارسه أنقرة في شرق البحر الأبيض المتوسط، سيغير كل المعادلات القديمة في التعامل مع هذا الحوض، الذي كان بحيرة للسلام لعقود طويلة، فما السر خلف هذه المقامرة الأوردوغانية، التي جعلت الاتحاد الأوروبي بين مطرقة الناتو وسندان تركيا؟
ثلاثة أسباب من وجهة نظري ساهمت في استمرار الإجراءات التركية التي ظاهرها الرحمة وباطنها مشروع سياسي بجميع أبعاده، وأول هذه الأسباب هو التفويض من دولة شمال قبرص التي لم يعترف بها سوى تركيا!، وبناء على تفويضها لهتلر الأناضول، ومنحه حق الدفاع عنها والتنقيب عن ثرواتها، جاء هذا التحرك التركي، فهده الورقة تشبه ورقة حكومة السراج لاقيمة دستورية، أو قانونية لها، والأمر الثاني أن تركيا لم توقع على معاهدة أعالي البحار، والأمر الأخير وهو الأهم، لو لم يجد ضوءًا أمريكيًّا أخضر لما قام بهذه المقامرة! ذات الأبعاد والحسابات السياسية المتعددة والمتشابكة.
التواجد التركي في شرق المتوسط أغضب وأحرج الأوربيين كثيرًا فالاعتداء وقع على دولتين في الاتحاد الأوروبي يحتم الميثاق السياسي حمايتهما ومساعدتهما، ولكن الرأي الأوروبي يشبه شقيقه العربي، وإن سعت فرنسا لاستثمار الموقف وتقديم نفسها كشرطي أوروبي للوقوف في وجه الأطماع التركية، إما بشكل منفرد وإما بشكل جماعي لمنع سرقة ثروات تخص بلدين أوروبيين، ولإغلاق بوابة التهديد التركي بالمهاجرين والإرهابيين.
وهذا ما دفع الرئيس الفرنسي لـ«مقاربة جيوسياسية» جديدة، تضع أوروبا في قلب صناعة الأحداث، والسيطرة على الملفات المتعلقة بالبحر المتوسط حتى تكون أوروبا في «دائرة الفعل» وليس «ردة الفعل»، فالأوروبيون الذين كانوا ينظرون للبحر المتوسط، بأنه بوابة «المغانم» تحول بسبب الأطماع التركية إلى بحر الظلمات من الهجرة غير الشرعية والإرهاب والتهريب، إلى الصدامات العسكرية المرتقبة أو الخلافات الأوروبية المنتظرة تجاه تركيا وهو ما سوف يؤثر على استقرار أوروبا، لاسيّما مع الموقف الأمريكي المائع تجاه ما يحدث، الأمر الذي يفرض وجود رؤية أوروبية مشتركة للسيطرة الجيوسياسية على البحر المتوسط الذي سيشكل تحديًّا في المستقبل لتحوله لمركز تتجمع فيه الأزمات المتنوعة التي تنذر بتفكك الاتحاد الاوربي وانقسامه على نفسه، وبروز تركيا كقوة جيوسياسية مهددة للأمن والاستقرار الأوربي.
هذه المقاربة الفرنسية تعكس رخاوة الموقف الأوروبي في منع تركيا من مواصلة «المقامرة الحالية» سواء في شرق المتوسط أو أفريقيا، ولذا خرجت توصيات البرلمان الأوروبي بضرورة تولي القوات الأوروبية مهمة دفع السفن الحربية التركية خارج المجال البحري الأوروبي، مع التوصية بزيادة حدة العقوبات على أنقرة كرسالة مباشرة إلى هتلر الأناضول بعدم تحديه أوروبا واستفزازها.
أين الناتو من هذه الاستفزازات التركية التي اكتفى بوصفها فقط بالمرفوضة؟! هذا ما يجعلنا نقول بأن الاتراك يستفيدون من الناتو كغطاء لتصرفاتهم التي لا يمكن السكوت عليها، فتركيا عضو في هذا الحلف، وتسعى قدر المستطاع لتحييده من خلال قراءة جيدة لبنوده، مستغلة الفراغات القانونية للتحرك داخلها، ولذا ينظر كثير من أعضاء الحلف لتركيا بأنها أصبحت عبئًا عليه، وهي تنظر باستعلاء ومكابرة وتحد بان الحلف ليس بوسعه الاستغناء عنها، وكأنها تقول أن الناتو سينهار من دونها!
هذا الموقف الهش من حلف شمال الاطلسي أفرز موقفًا فرنسيًّا بالانسحاب المؤقت من عملية للأمن البحري للحلف في البحر الأبيض المتوسط، بعد أن أضرم أردوغان نار الصراعات السياسية والدبلوماسية والعسكرية داخل منطقة تمس مباشرة أمن الاتحاد الأوروبي واستقراره، دون تحرك يذكر من الناتو، وهو ما اثار انقسام بين المعلقين السياسيين فمنهم من يرى أن صمت الناتو بمثابة الضوء الأخضر لأوردوغان، بينما يرى آخرون، أن حلف الناتو مكبل اليدين وليس بمقدوره فعل شيء لتحجيم تحركات تركيا العسكرية، بسبب القوانين الحاكمة للمنظمة، والتي لا تعطي الحلف سلطة على أعضائه غير الملتزمين، إما عن طريق الطرد أو تعليق العضوية.
قلت لصاحبي: ” إذا أراد الله هلاكَ نملةٍ أنبتَ لها جناحين”.