أسجل أولًا أنني من جيل سعودي، تأسس منذ الطفولة على اعتبار قضية فلسطين وتحرير المسجد الأقصى أم القضايا العربية والإسلامية، وزوال إسرائيل الحل الوحيد لها، ومن أجل ذلك حاربنا وقاطعنا وضحينا، وسنبقى على ذلك حتى تتحقق مطالبنا.
حاربت جيوشنا في حرب التقسيم عام ١٩٤٧، ووقفت مع مصر في الاعتداء الثلاثي عام ١٩٥٦ واصطفت مع دول الجبهة بعد عدوان ١٩٦٧ وحرب رمضان ١٩٧٣. قطعنا البترول عن الدول المؤيدة لإسرائيل في الخمسينيات والسبعينيات، ودفعنا ثمن الخصومة مع قوى عظمى إلى يومنا هذا.
عندما رفض الفلسطينيون اتفاقية كامب دايفيد (١٩٧٨) على مافيها من مزايا لم تتح لهم بعدها، قاطعنا الشقيقة الكبرى مصر من أجلهم. ولما وافقوا في أوسلو (١٩٩٣) على اتفاقيات سلام مع إسرائيل وافقنا معهم. ثم اختلفوا واتفقوا واختلفوا مع الكيان الصهيوني وكنا في كل مرة نميل معهم بدون تردد، حتى ولو خالف ذلك رأينا ونصيحتنا لهم. ولما اقتتلوا فيما بينهم على السلطة جمعناهم في مكة المكرمة إلى أن اتفقوا ووقعوا تحت أستار الكعبة (٢٠٠٧). وبعد أن اختلفوا مرة أخرى لم نتخل عنهم أو نفقد الأمل فيهم. وحتى عندما هرول بعضهم إلى إيران ليخضعوا للخميني ومن بعده، لم نقطع عنهم الدعم والمساعدة.
السر في ذلك أن القضية بالنسبة لنا قضية عربية إسلامية، وأن مسرى نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، وقبلتنا الأولى، المسجد الأقصى، ليست قضية سكان فلسطين فحسب، ولكنها قضيتنا، نحن أهل الجزيرة العربية، ومهد الرسالة وبلاد الحرمين الشريفين، مكة والمدينة. ولو تخلى الفلسطيني ”فرضًا“ عن قضيته فلن نتخلى عن قضيتنا، ولو باع غيرنا الحرم الشريف لما بعنا، ولبقينا نطالب بحقوقنا الدينية فيه حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولعل بعض أخوتنا في فلسطين أدركوا ما نحن عليه، فآمنوا ردتنا عنهم مهما فجروا في الخصومة والعداء والاستعداء. وضمنوا بذلك دعمنا السياسي والمادي لهم مهما انحرف بهم المسار.
المشكلة أن هذه القناعات، وهذا الإدمان على دعمنا بكل الأحوال أدى بقياداتهم إلى التفريط برفض الحلول الأفضل، واللهاث وراء الأسوأ، أو المطالبة بالمستحيل. ودفع بهم على مدى سبعة عقود إلى التعامل مع القضية كتجار الشنطة، وابتزازنا بادعاء المظلومية، واتهامنا بالتهاون في نصرتهم. وكأن تحرير فلسطين صار مسئولية كل عربي إلا هم، والتضحية مطلوبة من كل مقتدر إلا أثريائهم ومغتربيهم، والمقاطعة حق على كل دولة إلا دولتهم.
وساهم في هذا الانحراف الأخلاقي والسياسي والمالي في البوصلة الفلسطينية، التوجيه والاستغلال السياسي من إيران وتركيا، والدعم المالي والإعلامي من قطر والتبرير العقائدي من الإخوان المسلمين.
وكنتيجة، فقد نشأ جيل بعدنا، نحن جيل القضية، رافقت نشأته قضايا كبرى مستجدة، من بينها الخطر الوجودي الإيراني والتركي على الأمة مشارقها ومغاربها، ومؤامرة ”الربيع العربي“ على بلدانها، والتحديات الاقتصادية والإنمائية التي تهدد مستقبل أبنائها. وصار يرى في اهتمامنا الأزلي بقضية أضاعها أصحابها هوس يشغلنا عن قضايا أهم، وبات يجادل بأن ما ينفق من رصيد سياسي ومالي وأمني عليها أولى أن يصرف على بلداننا. ويذكرونا أن الشعوب تحرر نفسها بنفسها، كما فعل كل ثائر، ومنهم الجزائري والمغربي واليمني، عربيًّا، والباكستاني والأفغاني والأندونيسي، إسلاميًّا. كما يذكرونا بأن القيادات الفلسطينية رقصت فرحًا على كل مصيبة حلّت بنا وتحالفت مع أعدائنا وطبعت مع خصومنا، منذ الجماعات الماركسية واليسارية والقومية في منتصف القرن الماضي، وحتى المتعاطفين مع الثورة الخمينية واحتلال الكويت والمؤامرة الأوبامية، الإيرانية، التركية الأخوانية لتقسيم البلدان العربية، وقلب أنظمة الحكم الخليجية وتفكيك السعودية.
هذه المشاعر والانطباعات والمواقف تفسر حماس الأجيال الجديدة لخطوة الإمارات الأخيرة بالتطبيع مع إسرائيل. كما تفسر تقبل الشعوب العربية للتطبيع في مصر والأردن، سابقًا والسودان والإمارات وعمان والبحرين، لاحقًا، وهو أمر ما كان لجيلنا أن يتقبله عندما كسر الرئيس أنور السادات السائد وخالف المألوف بزيارة القدس وتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل.
كما يفسر رفض الخليجي بكل أجياله لما يراه من نفاق سياسي تركي، إخواني، قطري، إيراني، فلسطيني، يعتبر الخطوة الإماراتية خيانة فيما يعتبر التطبيع العلني والسري الذي يمارسونه حقًّا سياديًّا. هذا التعالي على أهل الخليج من قبل عرب الشمال ومن الفرس والروم، يضرب وترًا تاريخيًّا مؤلمًا عندنا. فطالما أعطوا لأنفسهم حق الوصاية علينا، لا يسألون عما فعلوا وهم يسألون.
ما فعلته الإمارات حق سيادي لها، وليست بحاجة إلى تبريره وتفسيره، ولا حتى تقديم ثمن له. كما كان من حق القيادات الفلسطينية أن ترفض استلام طائرة مساعدات إماراتية بعذر أنها نزلت في مطار تل أبيب، وأن تقبل بالطائرات التركية والقطرية، وتستلم الريال القطري عبر الموساد الإسرائيلي والإيراني عبر حزب الله. وكون الإمارات سعت إلى تضمين شرط في الاتفاق بوقف عملية ضم المزيد من أراضي الضفة الغربية يحسب لها وتشكر عليه.
أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية، وهي الهدف الأهم والأكبر لأمريكا وإسرائيل لمكانتها وريادتها العربية والإسلامية، فقد أعلنت موقفها بوضوح، في بيان لوزارة الخارجية، أنها متمسكة بالمبادرة العربية التي أطلقتها في القمة العربية في فاس عام ١٩٨٢ وأمنت الدعم العربي لها في بيروت عام ٢٠٠٢، وتقوم على حل الدولتين على حدود ماقبل حرب ١٩٦٧م وبالقدس الشرقية عاصمة لها.
هذا هو الثمن الغالي الذي تتمسك به بلاد الحرمين، وإن كانت لا تضع نفسها قاضيًّا على أي دولة ترى مصلحة لها وللقضية الفلسطينية في التطبيع، ولكن تنصحها بالمطالبة بثمن عالٍ يساهم في تعظيم المصلحة للفلسطينيين والعرب، والمساهمة في تحقيق السلام، كما يرى الأمير تركي الفيصل في مقالته (٢١-٨-٢٠٢٠) في صحيفة الشرق الأوسط، واتفق فيه ذلك معه.
وأختتم برأيي، وأنا ابن جيل النكبة والعدوان والنكسة وحرب رمضان واتفاقيات السلام، أن الكرة أصبحت في ملعب الفلسطيني أكثر من أي وقت مضى. فما من قضية وطنية حسمها غير الوطني، والاعتماد على الآخرين لحسمها يعطلها ويشتتها حتى ينصرف العالم عنها.
آن أوان الربيع الفلسطيني ليستعيد الشعب قضيته، فقد ثبت بعد سبعين عامًا أن التركيبة الحالية للقيادة ترث فساد وصراعات وفشل وتيه من سبقها. وكما انتفض العراقي واللبناني والسوري والسوداني والجزائري، آن للفلسطيني أن يستعيد انتفاضته الأولى والثانية، وهذه المرة بدأ بقيادته، وأن يخرج بفريق واحد وموقف موحد تجاه مستقبله، كما فعل شعب جنوب أفريقيا، ليقف العالم، كل العالم معه. وعليه أن يمثل نفسه بدون الارتباط بأحد، لا عرب ولا عجم، أو الاعتماد على غير ربه وأبنائه. هذا هو طريق النصر، ولم يوثق التاريخ غيره طريق.
——————-
Twitter: @kbatarfi