المقالات

هاوية التأجيل

الحق أني أنصفت الهاوية، ولم أنصف التأجيل، وأرى أن هناك مصطلحات أكثر عدوانية، وأنسب صبغة على ذلك السلوك؛ إذ لا شر يمكن تصوره في تبعات ذلك المدلول.

إلى وقت قريب، ولدى الأغلبية، وأنا أولهم لا نعرف عن التأجيل والمماطلة إلا أنه سلوك “غير جيد” بأثار سلبية محدودة، ولم يسعفنا أحد في تصويره بدقة أو تصوير نتائجه بشكل أبين.

ونجهل كثيرًا تلك الأبحاث والدراسات التي أقيمت في بحره، وسُلطت على أرضه، ولو وقفنا على كلمة “سوف” مثلًا، وهي صاحبة الأمر والنهي في هذا كله، تجدها أم الشرور، فهي بين عمل ينبغي إنجازه ويدور في فلك المتحقق، وعمل لم يتحقق يدور في فلك الغيب، ولم يعش الواقع بعد، وهذا ما يجعل الحجة قائمة؛ حتى يتحقق فأصبح بحال المتأرجح مع وقف التنفيذ.
تعذر نفسك في مالم يتحقق ما دام ليس ضمن دائرة المفترض بسبب النسيان، أو عدم الاهتمام، أو جدولة مسبقة، ولكن لا تعذرها فيما ينبغي أن يكون، ولم يكن، وفي هذا ما فيه من أثر سلبي على الذات.

الحقيقة أن التسويف في ترجمة علماء النفس ليست من الأمور السلبية العابرة؛ ولذلك وجد التسويف على أنه ردة فعل، ومن أجل ذلك قرروا أنه ليس كل تسويف تسويف، وبينوا معايير أبرزها النتيجة العكسية التي يضعف معها التصحيح، ويقل فيها نسب المعالجة.

تزداد ضخامة المشكلة حين تكون في أصلها ردة فعل، فقبل أن تشمّر عن ساعديك لإصلاح ذلك الكسر ورتق ذلك الفتق تجد نفسك بين مسببات أخرى من خارج الإطار الضيق لتلك الأزمة وبهذا تعرف سلفًا أن إصلاحك ورتقك ليس له فائدة مرجوة أو نتيجة محققة، وربما تنكسر أخرى وأنت لازلت تنشط في إصلاحه، وهكذا العمل تمامًا مع التأجيل يقوم الخلل بغيرة، وينطلق من خلال مسببات جانبية ليست ضمن دائرة الأصل أليس بعض التسويف نتيجة خوف من البدايات، وبعضه نتيجة فقدان الثقة وانحسار الأهلية لذلك العمل، بل وربما العكس بحيث تكون طلب الكمال ورفع سقف التطلعات هو السبب، وقد يكون من شتات عام يعيشه ذلك المؤجل، وقس على ذلك بعض من الاضطرابات النفسية الأخرى.

وليس سوء التخطيط وعدم إدارة تلك المهام بالشكل المقبول بمنأى عن كونه سبب لتلك الكلمة(سوف)، وقد يكون سببًا لذاته، فيصبح التسويف سببًا للتسويف، وحين تفتح له الباب وتمكنه من نفسه لا يلبث حتى يغذي نفسه بنفسه ويصنع تأجيلًا لكل تأجيل.
يقول فولتير إن هناك أربع طرق مهمة لإضاعة الوقت، وذكر منها الإهمال والعمل في غير وقته، وهما بطريق أو بآخر يصبان في ذات المعنى الأم الذي نحرر فيه، فقد أوقع بالتسويف حين جعله إهمالًا، وأوقع به أخرى حين جعل تلك الأعمال تحدث في أوقات غيرها، وكأن التسويف الراعي الرسمي لذلك الضياع.

ويكفي أن تعرف أن الدراسات البحثية والاستقرائية الواقعية للتسويف تعتبر الفاشلين مجالها الأول؛ حيث توصلت إلى ترابط روحي شديد بين الفاشل دراسيًّا واجتماعيًّا وأسريًّا…..إلخ، وبين المماطلة والتسويف؛ ليحتل الأخير المركز الأول في صناعة الفشل.

وأخيرًا إن وجدت لديك بوادر ذلك التسويف فعليك بسبيل الانعتاق قبل أن يلتهمك، وأول تلك السبل هي السلطة على المشاعر؛ لأنها السبب الداخلي الأول والأهم لكل تسويف ومماطلة.
غرد بـ”التسويف” يولد منك، ويعيش على نفسه.
رياض عبدالله

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button