د. عبدالله علي النهدي

التغافل .. والذكاء العاطفي

التغافل منهج تربوي، وفن من فنون الحياة الاجتماعية، وهو مهارة من مهارات الذكاء العاطفي والتواصل بين الناس، والتغافل في مفهومه العام يعني: أن تتظاهر بعدم الانتباه لأخطاء وزلات الآخرين، وعدم معاتبتهم عليها أو حتى مجرد إشعارهم بملاحظتك لتلك الزلات؛ ولكن مع المتابعة والتنبيه لتلك الأخطاء بالطريقة الملائمة وفي المكان والوقت المناسبين في حال تكرارها مرة أخرى، فعلى سبيل المثال قد يصدر تصرف خاطئ من ابنك الصغير، ولكن هذا التصرف لا يرقى إلى مستوى العقوبة، إلا أنه في ذات الوقت لو علم الابن بأنك لاحظت تصرفه الخاطئ ولم تعاقبه، فلربما يتمادى في تكرار ذلك التصرف، وبالتالي فإن تغافلك عن سلوكه الخاطئ قد يكون هو الحل الأمثل، مع ضرورة متابعته للتأكد من عدم تكرار ذلك التصرف أو تطوره لسلوك أسوأ.

وعن أهمية التغافل فقد ذكر أهل العلم أقوالًا عظيمة، وسطروا عبارات خالدة عبر التاريخ في مدح هذا الخلق الكريم، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ” تسعة أعشار العافية في التغافل”. وروي عنه أنه قال بل هي العافية كلها. وقال الإمام الحسن البصري رحمه الله: “مازال التغافل من فعل الكرام”، أما الإمام الشافعي رحمه الله فيقول: “الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل”. والمتتبع لكثير من الخلافات الزوجية التي تقع يجدها نتيجة عتاب أحد الزوجين على الآخر أو تتبع أحدهما زلات الآخر، ولو أن كل منهما تغافل عن هفوات صاحبه وغض الطرف عنها لدامت العشرة بينها ولأبحرت سفينة الحياة الزوجية بأمان، ولما رأينا المحاكم تكتظ بقضايا الخلع والطلاق. وقس على ذلك باقي العلاقات الإنسانية في شتى مجالات الحياة؛ فمن علاقة الآباء مع أبنائهم وعلاقة الجيران ببعضهم وصولًا إلى علاقة الناس داخل المؤسسات الرسمية في القطاع الحكومي والمؤسسات الخاصة، فالعلاقة بين الرئيس والمرؤوس وبين العامل والعميل تحتاج لنشر وتطبيق هذا الأدب العظيم حتى يدوم الود بين أفراد المؤسسة الواحدة، وبينهم وبين الجمهور المستفيد من خدمات تلك المؤسسة.

أتذكر موقفًا بسيطًا عندما كنا طلابًا في المرحلة المتوسطة، وقد تغيّب الأستاذ في أحد الأيام عن الحصة ولم يأتينا أي أستاذ بديل عنه، فخرجنا بهدوء إلى فناء المدرسة وجلسنا جانبًا نستمتع بدفء أشعة الشمس في يوم شتوي بارد، فخرج مدير المدرسة واتجه إلى جهة بوابة فناء المدرسة بهدوء ودون أن ينظر يميناً أو شمالًا، وكأنه لا يرانا، وكنا في حالة خوف شديد أن يتنبه لوجودنا فيطالنا عقابه، وعندما رأيناه يقترب من البوابة الخارجية للمدرسة، هرولنا جميعًا في صمت إلى داخل المدرسة وأيدينا على قلوبنا خوفًا من يلتفت إلينا، وحمدنا الله أن وصلنا إلى الفصل دون أن يكتشف أمرنا، وإذ به يعود بعدها بدقائق إلى مكتبه ويرسل لنا أحد المعلمين، مما يعني أنه رآنا ولكنه تجاهلنا وخاصة أننا قد عدنا إلى الفصل وهو ما يريده المدير، ولو بقينا مكاننا فمؤكد أنه سيلتفت لنا ويعاتبنا جميعًا.
اليوم ولأتفه الأسباب نقيم الدنيا ولا نقعدها، بل ونعمل على تصعيد الأمور في أبسط المواقف التي من المؤكد أنها ستنتهي في حينها لو تغافلنا عنها، ولكن عندما نتوقف عند كل صغيرة؛ فإننا بذلك نعمل على تصعيد، وتحويل الخطأ البسيط إلى مشكلة معقدة، بل ربما ندعم دون شعور منا ذلك التصرف العابر ليصبح سلوكًا متكررًا ودائمًا يصعب السيطرة عليه. دعونا نتذكر بعض المواقف البسيطة التي من الممكن أن نستخدم فيها خلق التغافل:
– أحد الموظفين الذين ترأسهم خرج دون أن يستأذن منك، ماذا سيحدث لو تغافلت عنه مرة أو حتى مرتين؛ فلربما يكون لديه ظرف طارئ أو عذر يصعب عليه إخطارك به، أو أنه يخجل من تكرار الاستئذان منك. ولذا نقول للمسؤول تغافل عنه، ولكن مع متابعة ذلك الموظف بحيث لو تكرر خروجه فمن حقك أن تستدعيه، وتخبره بأنك لاحظت خروجه من المرة الأولى ولكنك تغافلت عنه ولم ترد إحراجه، أما الآن فأخبره بأن خروجه المتكرر دون إذن سيفسره الآخرون بأنه إهمال من قبل الإدارة أو تواطئ الإدارة معه والسماح له بالخروج أثناء الدوام الرسمي دون زملائه.
– جارك يوقف سيارته في الموقف المخصص لسيارتك، ماذا يضرك لو صبرت عليه مرة أو مرتين أو حتى أكثر من ذلك، ثم تبدأ في تنبيهه واختيار الطريقة المناسبة لإخباره بنفسك، أو ربما تستعين بطرف ثالث يوصل له رسالتك، بدلاً من التصادم معه والشدة ورفع الصوت، وما سيتبع ذلك من صدود كل منكم عن الآخر حتى تصلا إلى مرحلة القطيعة الكاملة.
– أستاذ يشرح الدرس وإذ به يسمع كلمة أو تعليقًا ساخرًا من أحد طلابه، هل من الأفضل أن يتوقف عن الشرح ويعاتب ذلك الطالب أو يقوم بإخراجه من الصف، أزعم أن مواصلة الدرس أولى؛ فالتوقف سيقطع حبل أفكاره، ويؤثر على متابعة الطلاب الذين ربما أن الغالبية منهم لم تسمع تعليق الطالب، أما وقد توقف عن الشرح فالكل سيعرف ما الذي حدث بالضبط. وبطبيعة الحال وكما ذكرنا سابقًا بأن التغافل لا يعني عدم المتابعة؛ ففي حال تكرار الطالب لهذا السلوك؛ فبإمكان الأستاذ أن يستدعيه إلى مكتبه وينبهه لما بدر منه من تصرف خاطئ، ويحذره من العواقب الوخيمة التي من الممكن أن تطاله في حال تماديه. والأمثلة تطول لكثير من المواقف التي تمر علينا ونتوقف عندها بشكل يومي، بينما لو أننا أمعنا النظر فيها لوجدناها تندرج تحت مظلة الأمور التي يجب علينا التغافل عنها، إلا أنه في ذات الوقت يجب علينا أن نعلم بأن ليس كل سلوك خاطئ يمكن تجاهله، فمواقف التعدّي على الغير أو انتهاك حرمات الله تستوجب التدخل المباشر، ولكن يجب أن يكون ذلك بحكمة.

الخاتمة:
إن أردتِ أن تكون ناجحًا في حياتك فيجب عليك أن تعلم أنه ليس لديك الوقت الكافي لكثير من مواقف وسفاسف الأمور؛ ولذا ركّز جهدك ووقتك فيما يفيدك وليس لما يضايقك.
———————————-
* عضو هيئة التدريب بمعهد الإدارة العامة

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button