د. عبدالله علي النهدي

التواقيع: فن الرد في الكتابة الإدارية

التوقيعات هي عبارات موجزة بليغة يستخدمها الخليفة أو الوالي في أسفل الرسالة التي ترد إليه، تتضمن الموافقة على الطلب أو رفضه بصورة تجمع بين الإيجاز والجمال والقوة،وقد يكون التوقيع آية، أو حديثًا أو مثلًا أو بيت شعر. ورغم أن بعض المؤرخين يرى أن استخدام التوقيعات يعود إلى فترة العصر الجاهلي والحضارة الفارسية إلا أن الغالبية ترى أن ظهور التوقيعات بدأت مع بداية عصر الخلافة الراشدة،وازدهرت في العهد الأموي، وسوف نستعرض نماذج جميلة من هذا الفن الرائع موضحين بلاغة الرد على مرسل الرسالة، وما يشير إليه هذا التوقيع من معاني الإدارة الناجحة في ذلك الوقت:

في مجال توجيه المرؤوس وتشجيعه بشكل قوي على عدم التردد في تنفيذ المهمة؛ وقّع أبو بكر رضي الله عنه- إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد استأذنه في ملاقاة العدو: أدن من الموت توهب لك الحياة“.
أما في كيفية تعامل المسؤول بحزم وشدة مع البطانة الفاسدة التي تزين له السرقة وتبيح له الهيمنة على المصلحة العامة، وتحلل له أكل أموال الناس بالباطل؛ فمنذلك أن أحدهم رفع إلى الصاحب ابن عباد كتابًا ذكر فيه أن شخصًا هلك وترك يتيمًا وأموالًا جليلة لا تصلح لليتيم،وقصد الكاتب بذلك إغراء الصاحب بأخذها، فوقّع الصاحب فيه: الهالك رحمه الله، واليتيم أصلحه الله، والمال أثمره الله والساعي لعنه الله.
وفيما يخص المحافظة على المال العام والاقتصاد في التكاليف والمصروفات؛ فهذا عامل العراق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه- كتابًا يستأذنه فيه أن يبني دارًا، فوقّع عمر بن الخطاب رضي الله عنه- في ذيل كتابه: ابنِ ما يكنك من الهواجر وأذى المطر. وكتب ربيعة بن عسل اليربوعي إلى معاوية يسأله ليعينه في بناء داره بالبصرة، لكنه بالغ في الطلب؛ حيث أراد الحصول على أثنى عشر ألف جذع نخلة ليبني بها بيته؛ وقد كانت البيوت تسقف بجذوع النخل،فوقع الخليفة معاوية بهذا التوقيع المتضمن للاستفهام الاستنكاري والتعجب من طلبه فكتب: أدارك في البصرة أم البصرة في دارك؟!
ومما يؤكد على الاهتمام بالمراسلات والتدقيق في المعاملات الكتابية فقد وبخ الخليفة أبو جعفر المنصور عامله على حمص، عندما ورد منه كتاب وقد كثُر فيه الخطأ؛ فوقع المنصور: استبدِل بكاتبك، وإلا استُبْدِل بك.
أما في مجال تفويض الصلاحيات، وتطبيق مبدأ اللامركزية فهذا الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه- كان عنده أحد الولاة، وكان يراجع الخليفة ويسأل كثيرًا في التفاصيلفوقع له عمر: “لو أمرتك أن تعطي فلانًا شاة لسألتني.. لسألتني ضأن أم ماعز؟! فإن أجبتك، قلت ذكر أم أنثى؟!فإن أخبرتك سألتني سوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني فيه.
وفيما يتعلق بالمتابعة، وتوجيه الإدارة العليا للإدارة الوسطى، وحثها على الاهتمام بالعاملين لديها فقد وقععمرو بن العاص رضي الله عنه- لعامله على مصر جوابًا على كتابه إليه: كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك“. كما وقع المأمون في كتاب لعلي بن هشام في أمر تظلم فيه منه: “من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلمه من دونه، فأي الرجلين أنت”؟  وقد يحتاج التوجيه إلى الحزم والشدة، كما جاء في توقيع جعفر بن يحيى البرمكي لأحد عماله وقد كثرت الشكوى منه كثُر شاكوك، وقلَّ شاكرُوك، فإما اعتدلت، وإِما اعتزلت“.
وحول الاستفادة من الخبرات الموجودة، وعدم تجاهل كبار السن بعيدًا المحاباة للقريب الذي لا يملك الخبرة؛ فقد وجه الحسين بن علي رضي الله عنه- كتابًا للإمام علي يتضمن شيئًا من أمر عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فوقع سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه: “رأي الشيخ خير من مشهد الغلام”

وعلى العموم فإن فن الرد لا يأتي إلا من خلال توفر قدر كافٍ من الثقافة اللغوية والثقافة العامة، فالثقافة اللغويةتساعد على انتقاء الكلمات المناسبة للمواقف والمواضيع المختلفة ووضعها في موضعها الصحيح، بينما الثقافة العامة تمكنك من الحديث والكتابة في الكثير من الموضوعات؛ وهذه المهارة لا تأتي إلا من خلال الاهتمام بالقراءة اليومية في مختلف المجالات.

في الختام:

يجب علينا أن نفرق بين التوقيع والإمضاء؛ فالتوقيع كما ذكرنا في بداية المقال أنه كلمات موجزة تتضمن رد الشخص المستلم للخطاب؛ بحيث توضح رأيه فيما يتضمنه ذلك الخطاب، أما الامضاء فهو إشارة أو علامة أو بصمة أو خاتم يوضع أسفل الورقة المكتوبة، وتعني الإقرار بأن صاحب تلك الإشارة هو المسؤول عن صحة ما جاء في الورقة المكتوبة.

————————————-

* عضو هيئة التدريب بمعهد الإدارة العامة

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button