يُحكى أنه في يوم ما وقع حصان أحد المزارعين في بئر مياه عميقة ولكنها جافة، وبالطبع صُدم الحصان فهو لا يعرف كيف يتجاوز أزمته، وانتابته مشاعر متنوعة من القلق والتوتر والخوف والتهديد والخطر، واستمر هكذا إلى أن جاء المزارع الذي فكر كيف يستعيد الحصان؟ وانتهى إلى أن تكلفة استخراجه تقترب من تكلفة شراء حصان آخر، وحينها نادى جيرانه وطلب منهم مساعدته في ردم البئر كي يحل مشكلتين وهي: التخلص من البئر الجاف ودفن حصانه. وهنا أصبح الحصان في أزمة ومن حوله يلقون الأتربة والنفايات، فازداد الضغط وشعر بالعجز وعلا صوته بالصهيل الممتزج بالألم ومع ذلك كان بعض الأطفال المتعاطفين يلقون إليه بعض الأعشاب كي يأكلها. وفجأة انقطع صهيل الحصان فقد بدأ يفكر فعليًّا في فعل شيء ومواجهة الواقع الجديد، وحينها أدرك أنه بحركات اهتزازية بسيطة يمكنه إلقاء الأتربة من على ظهره؛ وبالتالي يصعد خطوة واحدة لأعلى واستمر يتفاعل مع الأتربة بالاستفادة منها في العلو.. إلى أن قفز إلى خارج البئر بسلام.
هذه القصة الرمزية أضاءت في ذاكرتي مقولة للروائية أحلام مستغانمي:” ما قد يبدو لك خسارة قد يكون هو بالتحديد الشيء الذي سيصبح فيما بعد مسؤولًا عن إتمام أعظم إنجازات حياتك”.
إن الأزمات والصدمات الحياتية أمر خارج عن إرادة البشر، ولكن التفاعل مع هذه الصدمات والأزمات هو ما قد يستطيعون التحكم به؛ لذا فإنه من الحكمة تقبل كل ما هو خارج عن نطاق سيطرتنا البشرية، وتذكر يا صديقي أنه من الممكن أن يحمل هذا القبول معه حالة من النمو الإنساني.
وفي هذا الجانب يرى تيدشي وكالهون أن الصدمات والأزمات ليست مقتصرة على السلبيات بل قد تؤدي لظاهرة “نمو مابعد الصدمة” وهي حالة من النمو والتغير الإيجابي للأفراد الذين تعرضوا لأحداث صادمة خلال فترة حياتهم أدت لتغير وتطور بجوانب شخصيتهم على المستوى الشخصي مثل تغير نظرتهم لأنفسهم، وعلى مستوى علاقتهم بالآخرين، وعلى مستوى نظرتهم للحياة ككل.
في الحقيقة إنني أتفهم جيدًا أثر الصدمات ولا أقلل من المعاناة النفسية أو منعكساتها السلبية، ولكنني وددت توجيه الانتباه لحالة نمو مابعد الصدمة لأهميتها؛ فقد لا يحدث النمو نتيجة مباشرة للصدمة، وإنما قد ينتج من كفاح الفرد مع واقع جديد يعقب الصدمة. كما أنه من الممكن أيضًا أن يلمس الفرد نمو مابعد الصدمة بالرغم من أنه مازال يعيش تبعاتها. وهذا ينطبق على الوضع الراهن فنحن نعايش الأزمة بحذر من خلال المحافظة على إجراءات التباعد، ولكن لنعايشها أيضًا بنمو عميق من خلال التفكير الإيجابي.
لكي ننمو علينا أن نحرص على التواصل الاجتماعي؛ حيث إنه يساعدنا في الإفصاح عن ذواتنا ويمدنا بالدعم النفسي، وكذلك قد يمدنا بمنظور مختلف للصدمة ومعانيها. وليكن التفاؤل الترياق اليومي فهو ما يجعل من الغد ما يستحق الانتظار بل وقد يجعل لليوم معنى. وخلال ذلك فلنجرب أن تتدرب على مواجهة الحياة بأنشطة فاعلة لتقوينا ولنستثمر قدراتنا ومهاراتنا. كما أننا نعايش حاليا تجربة فريدة من التعليم عن بعد لأبنائنا في المراحل المبكرة، وهذا قد يكون نمو باكر متى ما أحسنا التعامل معه فقد يساعد في إكسابهم مهارات مثل: الاعتماد على الذات، ترتيب الأولويات، وآداب الكتابة ومراسلة معلميهم.. الخ.
وبنظرة للواقع وقليل من التفكير يا صديقي قد نلمس أن صدمة تعرض العالم لأزمة كورونا حملت معها من النمو والمكاسب الإيجابية فوق ما نعتقد. إن الفترة التي صاحبت الأزمة قد تكون أتاحت قدرًا من الخلوة الإنسانية والتي قد تكون انعكست على تفكير البعض من الأفراد فساعدتهم على اكتشاف جوانب من شخصياتهم، وبدأ البعض فعليًّا في استغلالها وتطويرها ومحاولة اغتنام الفرص الجديدة، وانعكست على البعض الآخر بامتلاك حكمة وفهم للذات والحياة أكبر فأكتسب من خلالها فلسفة ومنظور أعمق. كما اكتشف البعض الآخر أنه يملك صمود وصلابه نفسية، وعلى الجانب الآخر تميز البعض بقدرة على الضبط والسيطرة على الذات وإدارة الضغوط، ولم يستسلم البعض لمشاعر التوتر، والتي تعد من الأمور الطبيعية في فترات الأزمات والصدمات، بل حاول باحثًا للنجاة منها. ولم يقصر هذا التغير على الجانب الشخصي، بل يوازيه جانب العلاقات الاجتماعية الإنسانية فقد لمس الأفراد قيمتها الحقيقية وحاجتهم المحورية لها مما انعكس بمزيد من التعاطف والألفة مع الآخرين بل قد يصبح الأفراد الآن أكثر وفاء بأدوارهم الاجتماعية عما سبق وهذا يعزز جانب التماسك الاجتماعي ويرتقي بقيم المحبة. كما أننا قد نلمس أن هناك تحولًا في كيفية التعامل مع الحياة اليومية وارتفاع تقديرها في نظر البعض.
وإن كان الحلم بالتحلم فإن الصبر بالتصبر، فالتحلي بالصبر كمجتمع مسلم هو أحد جوانب النمو القوية في مواجهة الأزمات قال تعالى:( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (آية 155سورة البقرة.
إن عملية نمو مابعد الصدمة تعمل على إعادة البنية المعرفية لتكن أكثر صمودًا في مواجهة الانكسارات متى ما تم التركيز على جوانب القوة وفرص النمو.