المقالات

النقد الشاعر !

لـ عبد القاهر لغة شاعرة يجسّ بها طريق النبع، وينتج العلم، وهو قريب من الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار، بل باشلار قريب منه، إذا شئنا الدقة، وأظن حلاوة عبد القاهر مضاعفة في تفتيق المسائل البلاغية من المسائل النحوية؛ لأنه ينقر الصخر بسكون طائر ثم يفجّر النبع بهذه اللغة الشاعرة الرشيقة التي يبدو المثال الحيّ عالقًا فيها فور الكشف عن المسألة، ففي باب الحذف وصفه أنّه شبيه بالسحر بكلام شبيه بالسحر، تخرج الأضداد فيه من الأضداد، وفي باب التقديم وصفه بما يناسبه من افترار البدائع واللطائف؛ وكأنها تنبت في شقوق التراكيب حين تنزاح على ما يقتضيه المقام التعبيري، وفي باب التشبيه وصفه، في كتابه أسرار البلاغة، بعبارات هي من نوادر الصور كتعليله إحدى التشبيهات الشعرية بقوله لأن الشاعر”فتح إلى مكان المعقول من قلبك بابا من العين”.
وفي وصفه لإحدى الصور الحركية ضاهى الشاعر في روعته وحسن بيانه ودقة وصفه، فحين علّق على البيتين التاليين:
حُفَّت بسرو كالقيان تلحّفت
خضر الحرير على قوام معتدل
..
فكأنّها والريح حين تميلها
تبغي التعانق ثم يدركها الخجل!
قال شارحًا بكلام دقيق عميق:” فقد راعى الحركتين، حركة التهيؤ والعناق، وحركة الرجوع إلى أصل الافتراق، وأدّى ما يكون في الحركة الثانية من سرعة زائدة تأدية تحسب معها السمع بصرا، تبيينًا للتشبيه كما هو وتصوُّرا، لأنّ حركة الشجرة المعتدلة حال رجوعها إلى اعتدالها أسرع لا محالة من حركتها في حال خروجها عن مكانها من الاعتدال، وكذلك حركة من يدركه الخجل فيرتدع، أسرع أبدًا من حركته إذا همّ بالدنوّ، فإزعاج الخوف والوجل أبدًا أقوى من إزعاج الرجاء والأمل، فمع الأوّل الاختبار وسعة الحوار، ومع الثاني حفز الاضطرار وسلطان الوجوب”.
وتأمّل تعليقه على إيثار صيغة على أخرى في إحكام الصورة الشعرية وضبط حركتها في بيت ابن المعتزّ:
كأنَّا وضوءُ الصبح يستعجل الدجى
ـ ـ نطيرُ غرابًا ذي قوادم جونِ
يقول تعليقا على إيثار صيغة”نطير” على”يطير”:
“وذلك أن الغراب وكلّ طائر إذا كان واقعا هادئا في مكان، فأُزعِج وأُخيفَ وأُطيرَ منه، أو كان قد حُبِسَ في يدٍ أو قفص فأُرسِل، كان ذلك لا محالة أسرع لطيرانه وأعجل وأمدَّ له وأبعد لأمده، فإنَّ تلك الفزعة التي تعرض له من تنفيره، أو الفرحة التي تدركه وتحدث فيه من خلاصه وانفلاته، ربما دعته إلى أن يستمرّ حتى يغيب في الأفق، ويصير إلى حيث لا تراه العيون، وليس كذلك إذا طار عن اختيار، لأنه يجوز أن يصير إلى مكان قريب من مكانه الأوّل، وألا يسرع في طيرانه، بل يمضي على هِينتِه، ويتحرَّك حركة غير المستعجل”.
فعبد القاهر في النموذجين أعلاه يستحسن ويعلّل موضع الحسن، ويناغي الشعر بكلام يشبه الشعر، وهي طريقة من طرقه الفريدة في التعبير عن معانيه النقدية، وأظنها أحد الأسباب التي مكّنته من تفجير ينابيع اللغة، وجعلته يفتح آفاق الشعر، ويجدّد طريقة التلقي للبيان.

سعود الصاعدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى