يتشدق البعض بترديد عبارات يصدرونها للعقل ليكف عن التفكير في سوء استخدام الحرية في مجتمعات تقدس الحريات على المنع والتقنين المقيد بضوابط تمنح الحرية المسؤولية ومشروعية صلاحياتها في التنفيذ بلا ضرر ولا ضرار. فإعلان وزير التعليم الفرنسي “جون ميشيل بلانكير” منح المدرس “صمويل باتي” والذي تم قتله بعد عرض رسوم كاريكاتورية للنبي محمد –صلى الله عليه وسلم– على تلاميذه وسام (جوقه) وهو أعلى وسام في فرنسا، وتتم مراسم التكريم بجامعة السوربون. وما أوردته التصريحات الرسمية وغير الرسمية في فرنسا، والتي تدعم نشر الرسوم المسيئة للرسول –صلى الله عليه وسلم– ومن قبلها الفيلم السينمائي الهولندي (فتنة)، ورسوم العديد من رسامي الكاريكاتير، أشهرهم الرسام الدنماركى “كورت فيستجارت” الذى لم يعرب عن أسفه عن تلك الرسوم وذلك تحت شعار (حرية الرأي والتعبير)، وقطعًا لا يمكن بأي حال قبول أن الإساءة للأديان والرسل جميعًا يمكن إدراجها تحت حق حرية الرأي والتعبير، بل تعزز ثقافة الكراهية والشقاق بين البشر، وإمعانًا في تأكيد تغذية العقول بالمغالطات وربط الإسلام بالعنف بما يعزز بدوره مفاهيم التناحر ونشر الكراهية والتعصب الديني، والذى تقولب العقل الجمعي الغربي برمته به واصطبغت به أفكار قادة الرأي والساسة، وتلوك بها ألسنتهم في تصريحاتهم في فترات زمنية وأحداث مختلفة، والتي تتشابه فيها الإساءة والازدراء وتكريس صورة نمطية ثابتة تُتداول في مختلف المحافل وتتناقلها وسائل الإعلام المختلفة في الغرب لدعم مفهوم “الإسلامو فوبيا” أو “أسلمة الإرهاب” وتشويه صورة العرب والمسلمين والتي تفاقمت منذ أحداث 11 سبتمبر، أو أيلول الأسود كما اشتهر عنه 2001، بتقديم المسلمين في صورة لا تليق بتاريخنا وحضارتنا الإسلامية، تتهمهم بأنهم متخلفون ومتعصبون، يمتازون بالقسوة والقرصنة والضعف والشهوة، وأنهم ضد المرأة، وأنهم مصدر الإرهاب والتطرف، وأن اللغة العربية تجعل العرب يستعملون معانيَ لا يقصدونها فعلًا، وأنها تتجه بهم في التعبير إلى البعد عن الحقيقة والواقع.. ولا تعتمد تلك الصورة على تقديم الحقائق الثابتة، بل على نظرة عنصرية ظالمة.
وهذا في الحقيقة يقودني إلى القول، بأن ظاهرة صناعة الصورة المشوهة للإسلام والمسلمين في الإعلام الغربي ليست ظاهرة إعلامية محضة، وإنما هي أوسع من ذلك، هي ظاهرة ثقافية وقد اشتركت فيها وسائل متعددة، ربما نستطيع القول بأن منابر ثقافية وتوجيهية متعددة في المجتمعات الغربية، كالدراسات الاستشراقية، والكتب المدرسية، والموسوعات العلمية، والقصص والروايات، والأغاني الشعبية، والرسوم الكاريكاتورية، بل ربما أيضًا الدراسات الاستراتيجية التي كانت في الماضي -وما تزال أيضًا اليوم- تبنى على تلك الصور التي أُنتجت في السابق.
ومع التطورات التكنولوجية الهائلة في وسائل الإعلام وقدرتها على تخطي حواجز الزمان والمكان، وبث ثقافات مختلفة عبر القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، بكل ما تحمله من أفكار وقيم وصور وسهولة استقبالها من كافة الشعوب، وما صاحبها من متغيرات دولية؛ ساهمت في إعادة تشكيل العالم، مع ظهور كيانات سياسية واقتصادية قطعت أشواطًا في مجالات التعاون المختلفة، وفتحت الحدود أمام السلع والمنتجات، بما فيها المنتج الثقافي والإعلامي، وترويج الأفكار، وبث القيم البديلة للشعوب العربية، وإحلال وإبدال وقولبة جديدة أوجدت مناخًا من التشكيل الفكري والقيمي لدى العقل العربي باستقطاب الشباب واستغلالهم في ترويج سلعهم الفكرية التشويهية لصورة الذات، باللعب على الدوافع والغرائز، والرغبة في التجريب والإبهار التكنولوجي في كافة المعالجات المقدمة للمتلقي العربي.. نحن نمر الآن بإشكالية التغريب بالترهيب..
صنعوا لنا عالمًا بديلًا مزيفًا منسوجًا من فنتازيا الصورة المزيفة للذات العربية، والمسلمين على وجه التحديد.
علينا نحن العرب المسلمين الاعتراف بقصورنا في الخطاب الإعلامي الإسلامي الموجه للغرب، مما يتطلب ضرورة انفتاح العالم الإسلامي على العالم الغربي وعلى حقائق العصر، مع الحفاظ على ثوابت الأمة وتقاليدها الإسلامية بما يسهم في تصحيح صورة العرب والمسلمين، فنحن لدينا الكثير من القنوات الفضائية العربية والإسلامية، ولكنها لا تخاطب الرأي العام العالمي بلغة يفهمها.
وعلى الرغم من الفوائد المعلوماتية والبحثية التي توفرها شبكة الإنترنت لجميع من يتعاملون معها، إلا أنه على الجانب الآخر يظهر الجانب السلبي لهذه الشبكة، من خلال استخدامها في تقديم معلومات أو صور مشوهة من جانب بعض الدول أو الهيئات أو الأفراد عن الشعوب والدول الأخرى.
وعلينا هنا أن نؤكد على ضرورة تكاتف الجهود العربية والإسلامية – وخاصة الإعلامية منها – لمواجهة هذا التشويه المتعمد للإنسان العربي وثقافته على شبكة الإنترنت، مع اعتزازنا بذاتيتنا الثقافية، وإن كنا لا نعتبر تأكيد الذاتية الثقافية ضربًا من الانطواء على النفس، أو صورة من صور التعصب الوطني، بل هو على العكس، يعني الرغبة في الإسهام والمشاركة، وهو يعطي التعاون الثقافي الدولي مضمونًا حقيقيًّا، فليس التفاهم بين الشعوب مجرد أمنية، كما أنه لا يقوم على تسلط شكل واحد من أشكال الثقافة، بل يتجسد ويقوى عن طريق المساهمات الأصلية لمختلف الشعوب بتقاليدها الثقافية وتراثها التاريخي وقيمها الإنسانية وأشكالها الأصلية في التعبير الفني.. إن تأكيد الذاتية الثقافية لكل شعب من الشعوب ينبغي أن يقوم على أساس التعدد الثقافي، والتحاور ما بين الثقافات والحضارات، واحترام ذلك على أساس من المساواة في الحق والكرامة، باعتباره عاملًا من عوامل السلام والتفاهم بين الشعوب، وتأكيدًا لمفاهيم الإخاء والتراحم والتعايش والتسامح واحترام الآخر.