جبل شدا الطريق الى القمر

ما من زائر الى جبل شدا بمنطقة الباحة محافظة المخواة الا ولديه وفرة من التساؤلات المرتبطة بالمكان والتاريخ وملامح الجغرافيا ، تساؤلات عن الانسان الشدوي الذي انتسب لهذا الصرح الشامخ ، وبقدر هذه التساؤلات الهائلة تتنوع الإجابات وتنداح المعارف ، ودائما ما ادعو الى زيارة هذا المعلم الجغرافي الذي يجثم بأطرافه في اقصى أعالي الشرق لساحل البحر الأحمر وينتصب شامخاً في السماء ليعانق قمم سلسة جبال السروات ، فقد سرني كثيراً أن كتبت مقالاً في السابق عن هذا الشموخ بعنوان (شدا والانسان الشدوي) وقد تناولت فيه محاور عدة ودعيت الى اجراء دراسات مستفيضة وجادة عن الجبل ومكوناته من جهات مختلفة ذات علاقة بالطبيعة والجغرافيا ، اما اليوم فدعونا نواكب رؤية الوطن وتطلعات القيادة وفقها الله من خلال هذا الطرح نحو سياحة واعده يتحقق منها البعد الاقتصادي وكذا إكتشاف الابعاد الجغرافية والثقافية لإنسان الباحة ، ففي الآونة الأخيرة برزت جهودٌ كبيرةٌ لمحافظة المخواة ولمحافظها النشط سعادة الاستاذ نايف الهزاني يحفظه الله ، حيث دُشن مسار الطريق التراثي بحضور وكيل امارة منطقة الباحة الأستاذ احمد السياري وقد شكل ذلك الافتتاح حالة كرنفاليه شارك فيها الكثير من المسئولين بالمملكة وهواة رياضة المشي وبعض السياح وكذا الشغوفين بمعرفة جغرافية الجبل وتشكلاته الجيولوجية.

إن هذا العملاق جبل شدا الذي ما ان تصل الى قمته حتى تشعر أنك على مقربة من القمر فحينما يقف الانسان في أعلى القمة يشعر بالانتشاء وابتهاجاً مغايراً وبحالة مزاجية مختلفة ، في المقابل لا تقل الابعاد الأخرى عن ذلك فما ان تستشرف احدى التلال المترامية على اطراف الجبل وجنباته وانت تنظر في ارجاء المكان الا وتشعر بحالة من الانس والسعادة انها لحظات بانورامية وإطلاله باذخة قل لها نظير او مثيل ، وتلك الابعاد حتماً تلهمك بتداعيات مختلفة واحيانا تجيب على تساؤلاتك الجبرية وتجعلك تتحاور مع ذاتك ، وتتوارد اليك جملة من الإجابات القطعية عن الأمكنة والمعالم لتلتقي ذهناً بعوالم مختلفة تتنوع تبعا لأبعاد المكان ونواميس التغيرات الجغرافية .

إن ظهور وتبدي الجوهر الناصع للمكان لا يمكن الا ان يكون بالوقوف عليه والسير في جناته ،هناك في شدا المكان الاليف يتحرر الانسان من ضغوطات الحياة وتَجلي جانبا من همومه وتوتراته نظرا للبعد الاسر في جنبات المكان الخارج عن الرتابة والنسق المألوف ، ولك ان تعيش اخي السائح حالات الشروق وكيف تنسكب الشمس في أعماق المكان ، كيف هي حالات الظل وابعاده ، كيف هي هبوب الرياح وتباينات الأجواء من حين لأخر طوال اليوم ، وكيف تشاهد الشمس وهي تسافر في رحلتها الدهرية ، وكيف تُرى وهي تميل الى الزوال ، ذاك بعد أخر لم يتأت لك الا في جبل شدا الأسطورة ، اما حالات الغروب وتناثر الشفق في افق السماء فحدث ولا حرج وانت على هذا الارتفاع تتجاور مرة أخرى مع شمس الأصيل ، تشاهد قرص الشمس عن قرب باستدارته الجميلة احمر يميل الى الصفرة يتلاشى شيئا فشيئا وهو تودعك الى يوم جديد ليسكب ضوء أخر يعتمر في جوف الانسان نحو تطلعات الاشراقات المتجددة في يوم جديد حيث أصوات الطبيعة في غدو الناس نحو كل الحياة ، حالات الصفاء تسود الأمكنة طوال اليوم ، ولعها عبارة تصل المعنى الحقيقي لأبعاد المكان وصفاته ، حاولت بكامل الجهد أن أقدم مرئيات عن أبعاد وتباينات المكان وتضاعيفه ولكن ذلك لم ولن يتأت لي كما هو حال الواقع ولن يرَ البعد الاخر للجمال إلا من واقع المعايشة للأمكنة ، هناك حيث مسرح الجمال والطبيعة وأنساق الفن ومتواليات عطاءات الانسان الشدوي ، وأجزم ان الحقيقة المدهشة لن تتجلى لاي شخص سواء بمعايشة المكان عن قرب والتجول في أطرافه ، وهناك ستعرف الماضي وتعيش الحاضر وحتى تستشرف افق المستقبل لمعاودة زيارات متكررة وذكرى جميلة لن تنسى ، الجدير بالذكر ان محافظة المخواة مثلت حالة استقطاب بشكل لافت في السنوات الماضية ونحن هذه الأيام على أعتاب فصل الشتاء حيث تبرز المحافظة بأجواء قرينة الربيع وتعد المعادل السياحي الشتوي لمنطقة الباحة كقرينتيها الحجرة وقلوة حيث تعد المخواة منصة إنطلاق لصعود جبل شدا وخصوصا لمن يمارس هويات مختلفة ويرغب العيش بالبعد الأخر للجمال ، باعتبار ان تباينات الموقع تحمل قيمة جمالية وثقافية ممتدة في التاريخ وتتكامل مع اطماح ورغبات الكثير من الناس .. والى لقاء .

همسة
شدا الأسطورة واقع مدهش
عوضه بن على الدوسي
ماجستير في الادب والنقد