كم هو جميل أن تدخل البهجة والسرور على قلوب الناس، وكم هو محمود أن نعين الآخرين على قضاء حوائجهم، بل إن ذلك يُعد من أحب الأعمال إلى الله كما جاء في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ)، وقوله على الصلاة والسلام: (والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه).
وصدق الشاعر حين قال:
وأفضل الناس ما بين الورى رجل
تقضى على يده للناس حاجاتُ
قد مات قوم وماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
هذا الإرث العظيم الذي وصلنا عن طريق الشريعة السمحة أو انتقل إلينا جيلًا بعد جيل عبر الأعراف والتقاليد الأصيلة، نجله ونفتخر به ولا نقلل من قيمته، ولم ولن نطالب بالتخلي عنه؛ وإنما نطالب بالاعتدال والوسطية في ممارسته، حتى وإن كان الأمر يتعلق بالعبادات وأعمال الخير، فيجب ألا يكون حرصنا على القيام بهذه الأعمال النبيلة على حساب التزامات وواجبات أخرى أهم؛ سواء كانت تختص بمصالحنا الخاصة أو بأية مصالح تقع ضمن مسؤوليتنا، فلا نقدم المهم على الأهم. فهذا سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما رأى شبابًا في المسجد في غير وقت الصلاة، وسألهم: من أنتم؟ قالوا: نحن متوكلون، قال: بل أنتم متواكلون، لا يقعدن أحدكم عن طلب الزرق ثم يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض، أما سمعتم قول الله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) وعلاهم بدرته وأخرجهم من المسجد. رغم أن هذا المشهد يظهر شبابًا في بيت من بيوت الله يداومون على الطاعة، لكن الفاروق -رضي الله عنه- أراد أن يوصل لهم رسالة قوية بأن العبادة لا تقتصر على أداء نوافل الصلاة وقراءة القرآن، وإن تكن هي من أجل العبادات، كما بين لهم أن الأعمال الصالحة ليست محصورة بجدران المسجد فقط.
يتضح لنا مما سبق؛ أن أعمال العبادة ومساعدة الآخرين وأعمال الخير بصورة عامة هي أمور محمودة بل ومطلوبة، ولكن في المقابل هناك أولويات واحتياجات وهناك مسؤوليات لكل شخص يجب أن يؤديها ولا يفرط فيها أو يخل بأدائها بحجة أنه انشغل بمساعدة شخص ما. ومن الأمور التي تساعد على الإخلال بأعمالنا ومهامنا اليومية في العمل بل وحتى في شئون حياتنا الخاصة هي عدم مقدرتنا على قول كلمة (لا)، فللأسف أن كثير من الناس بمجرد أن يطلب أحد منه مساعدة حتى وهو منهمك في أداء مهمة من ضمن مسؤولياته؛ فتجده يترك ما بيده وينصرف إلى مساعدة ذلك الشخص، بل الأدهى والأمر أن يأتي زميل أو صديق إلى مكتبك أو منزلك دون سابق استئذان وليس لطلب خدمة أو مساعدة، وإنما ليتسلى معك ويشغلك عن العمل الذي أنت بصدد إنجازه، ومع ذلك تتجاوب معه وتترك عملك، وتجامله في الحديث وضياع الوقت.
من السهل جدًّا أن تقول (نعم) لكنك في كثير من المرات ربما تندم على قولها وتتمنى لو أنك قلت ألف (لا) ولكن بعد فوات الأوان، وإذا تساءلنا؛ لماذا لا يستطيع الكثير منا قول كلمة (لا) من البداية؟ حتمًا سنجد الأسباب متعددة ولن تكون واحدة، فهناك من يقول (نعم) لكي يحصل على شكر وثناء وتقدير الآخرين، والبعض الآخر يقولها خوفًا من أن يقال بأنه شخص سلبي وغير متعاون، وربما يقولها البعض حرصًا منه على عدم تأثر علاقات الزمالة أو الصداقة مع من حوله. لكن الواقع يقول إن رضا الناس غاية لا تدرك، إضافةً إلى أن هناك أشخاصًا استغلاليين ولا يريدون أن يتعبوا أنفسهم ببذل أي جهد في العمل طالما أن هناك آخرين مستعدين لأداء مهامهم بدلًا عنهم بمجرد أن يطلبوا منهم المساعدة، بل ويعتبرون ذلك حقًا من حقوقهم، حتى لو كان ذلك على حساب تعطيل مصالح أولئك المتعاونين.
ولكن في ذات الوقت هل من اللائق أن نقول كلمة (لا) لشخص يطلب منا المساعدة، بالطبع كلمة (لا) رغم صغر حجم الكلمة وقلة عدد حروفها؛ إلا أنها تظل كلمة جافة ونغمتها قاسية على مسامع الناس؛ ولذا فالمطلوب أن نقولها ولكن بشكل مختلف وغير مؤذي للغير، وخير قدوةً لنا في ذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام، ففي حديث (سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب)؛ قام عكاشة رضي الله عنه وقال أدعو الله يا رسول الله أن أكون منهم؛ قال: أنت منهم. فقام رجل وقال: وأنا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام (سبقك بها عكاشة). هنا نجد قمة الأدب النبوي تتجلى في الرد على السائل، وخاصة إذا قارنا ذلك بقول كلمة لا، فهكذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد أنهي الموقف بلطف ودون أن يفتح مجال للبقية الذين يحضرون مجلسه صلى الله عليه وسلم بأن تتوالى طلباتهم: وأنا… وأنا.. وأنا. وربما قد علم النبي أن مكانة ذلك الرجل ومنزلته لن تصل به إلى تلك المنزلة، فلم يشأ أن يجرح شعوره ويخبره أنه لن يكون منهم، فلاطفه بقوله: “سبقك بها عكاشة”، وقيل إن هذا الرجل ربما يكون من المنافقين الذين أخبر بهم المولى -عزل وجل- رسوله الكريم؛ ومن أدبه صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يفضحه أمام الناس؛ وفي كل الأحوال وأيا كان حال الرجل نجد أن الموقف قد انتهى دون جرح مشاعر السائل ولا ضياع لوقت المجيب، وفي ذات الوقت هو درس عظيم في ملاطفة الناس، وعدم إحراجهم أمام الآخرين.
من هذا المنطلق نستطيع أن نتخلص من المواقف المحرجة والطلبات المزعجة بأن نعتذر دون أن نقول كلمة (لا)، فشخص يطلب منك أداء عمل وانت مشغول بإمكانك أن تقول له: أتمنى مساعدتك ولكنني مشغول الآن ومازال أمامي وقت طويل لإنهاء عملي وسوف أعطلك لو انتظرتني. وإذا وجدت زميلًا يطيل الجلوس في مكتبك وأنت مشغول، اعتذر منه وقل له الحديث معك شيق ولا يمل، ولكن اعذرني فإن لدي عمل مهم يجب أن أركز في إنجازه. وإن لم تنجح بهذا الأسلوب فلا بد أن تكون حازمًا، وإلا سوف تجد نفسك متعبًا وتحت الضغط، وسوف يضيع وقتك في غير فائدة، وستحاسب على تقصيرك في إنجاز مهامك في الوقت المناسب بسبب مجاملتك للآخرين.
رسائل شكر:
• كل معاني الشكر والتقدير للإدارة العامة لتعليم منطقة مكة المكرمة على تفاعلها المجتمعي وتجسيد ذلك على أرض الواقع من خلال صرف عدد من الأجهزة الذكية لأسرة مواطن تعرض منزله لحريق أتلف كافة محتوياته، وهي رسالة لبقية المؤسسات العامة والخاصة (أين أنتم)؟!!
• شكراً للأخ الزميل محمد بن زويد العتيبي خبير الموارد البشرية على إهدائي نسخة من كتابه الرائع: أفضل الممارسات الإدارية.