بيان هيئة كبار العلماء باعتبار تنظيم (الإخوان المسلمون) جماعة إرهابية وضع النقاط على الحروف حول هذه الجماعة التي كثر الجدل واللغط حولها، هذه الجماعة التي تتسلل بهدوء داخل المجتمعات من خلال انخراط أعضائها في تقديم الخدمات الاجتماعية، فإذا ما استقر لهم الحال في دولة ما، تكشف الجماعة عن نشاطها الحقيقي في استقطاب الشباب والتأثير على فكرهم وعقولهم، ومن ثم تبدأ أعمال الصدام مع المؤسسات الرسمية في الدول المستضيفة حتى يصل الحال (أحيانًا) إلى حد المواجهة مع جهات الأمن، وما يتبع ذلك من أعمال عنف تحت ذرائع (دينية) مختلفة.
كم كنت أرجو ألا يقتصر بيان الهيئة على جماعة الإخوان فقط، فتاريخ صدوره يتزامن مع مرور الذكرى (13) على استشهاد اللواء/ ناصر العثمان على يد (ابن أخته) الذي كان يستعد للذهاب إلى العراق، فجاءه الأمر من القيادة الإرهابية بأن (اغتيال خالك) يفوق أجر النفير للعراق!. المسلمون لا يعانون من جماعة الإخوان فقط، بل من (كل) جماعات التطرف الديني على اختلاف مواقعها ومذاهبها، والتي يستتر (قادتها) خلف قناع الإسلام لتحقيق مآربهم السياسية والدنيوية من سلطة، وما يتبعها من امتيازات و ثراء أيضًا، ويجعلون (شباب الأمة) حطبًا لأعمالهم الإرهابية، وأجدني أقتبس مقولة منسوبة للمستشارة الفرنسية رولان: (أيتها الحرية: كم من الجرائم ترتكب باسمك)، وأعدلها لتصبح (أيها الإسلام: كم من الجرائم ترتكب باسمك).
من المستفيد من تصرفات (الإخوان المسلمون) والجماعات الدينية المتشددة المنبثقة عنها أو المشابهة لها؟ ما الأضرار الناجمة عن أفعالهم على الإسلام والمسلمين؟ لو اجتمع إبليس مع أعدائنا في الشرق والغرب؛ ليشوهوا الإسلام فلن ينجحوا كما نجحت الجماعات الدينية على اختلاف مسمياتها في تغذية مفهوم الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا).
والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف وصلنا لهذه المرحلة من التطرف؟ إن لمحة سريعة عبر التاريخ تكشف لنا أن فتاوى ومواقف وآراء (بعض) علماء الدين حول الحلال والحرام في شؤون الحياة، كانت ومازالت هي (المدخل الأول) نحو التطرف؛ حيث تتأثر (الفتاوى والآراء) بثقافة الشيوخ الشخصية وثقافة بيئاتهم وزمانهم، وتنعكس على أتباعهم الذين يتمسكون (حرفيًّا) بما قاله شيوخهم ويرفضون أي رأي يخالفهم. على سبيل المثال، في عهود سابقة، كانت القهوة شرابا محرما، واستند علماء تلك المرحلة على أن للقهوة تأثير على مزاج الفرد يعادل تأثير الخمر وعليه فهي محرمة كحرمة الخمر، أما في العهود القريبة، فلعلنا لا زلنا نذكر فتاوى تحريم الصور و الأطباق اللاقطة للبث الفضائي (الدشات)؛ إضافة إلى كثير من الأمور ذات العلاقة بالمرأة وقضاياها وكيف كانت محرمة ومن يكتب عنها يتهم بأنه يسعى إلى تغريب المجتمع! هذا التباين (في تحريم الحلال ثم الرجوع مرة أخرى عن التحريم) من زمن لآخر يخرج أجيالًا تتمسك برأي واحدٍ، وترى من يعارضها زنديقًا أو منافقًا للسلطة أو من الخوارج (عن إجماع الفترة الزمنية).
أجواء الخلاف الفقهي والتمسك بالرأي ورفض قبول الرأي الآخر، وظهور جماعات نرفض الأخذ بما جاء في كتب السنة، وتسيء إلى علمائها، ولا تعتقد إلا بما جاء في القرآن فقط، إضافة إلى ما كتبه (المستشرقون) في قرون ماضية عن الإسلام ونقاط الاختلاف (بين أتباعه) في المذاهب والفرق الإسلامية، جميعها كانت (عوامل) استطاعت (الاستخبارات العالمية) استخدامها (بحرفية) تخدم مصالحها، فصنعوا بعناية فائقة (قيادات دينية)، وكونوا لهم (جماعات)، وصاغوا لها أهدافًا سياسية (مبطنة)، وأخرى (علنية) ذات صبغة دينية سيطرت بها على فكر وعقول الأجيال، وزادت من تكريس الخلافات الفقهية والمذهبية!
استطاعت تلك القيادات العميلة (وبعض المنغلقين) من علماء الدين من صناعة التطرف والمتطرفين عبر عدة مراحل تبدأ من مرحلة عزل المتطرف عن مجتمعه بحيث (يرى كل ما حوله في الحياة حرامًا من حيث الأفعال وكافرا من حيث الأفراد لا يمت للإسلام بصلة)، ثم مرورًا بمرحلة إلغاء السلطة الأبوية وولي الأمر (الحاكم) واستبدالهما بسلطة (أمير الجماعة)، لتأتي مرحلة زرع مبادئ (قائد) الجماعة وحفظ ما يبيحه ويحرمه، لنصل للمرحلة الأخيرة من صناعة المتطرف؛ وذلك بالسيطرة على عقله فيصبح جاهزًا لكل أوامر و نواهي الأمير!
وهذا يدفعنا لنتساءل: كيف لنا أن نحارب صناعة التطرف؟ حتى نتصدى للإخوان والجماعات الأخرى، فإن أول مراحل مواجهتهم هي أن نعلم أبناءنا (ثقافة الاختلاف) واحترام الرأي الآخر والتعايش مع كافة الأطياف، كما كان المسلمون الأوائل يتعايشون ويتعاملون مع اليهودي والنصراني والمشرك أيضًا، وألا نرفض بالمطلق (الطرف الآخر) لمجرد أنه يخالفنا في الرؤية أو الفتوى أو المذهب أو الاعتقاد الذي اختار هو أن ينتمي إليه، يجب (إعادة صياغة مناهجنا) وتوضيح الاختلافات في أحكام بعض أمور الحياة، ولإعادة النظر في أحكام وفتاوى متعددة، وإعادة فهم وتفسير بعض النصوص بما يتناسب مع عصرنا، لابد من (مخاطبة العقل المتطرف) الذي تمت برمجته؛ حتى صار تابعًا (لأمير الجماعة) فاقدًا أهلية القرار والتفكير، ويرى أن صب البنزين لإحراق الجسد هو نوع من الجهاد أمام السلطان الجائر، أو أن ارتداء الحزام الناسف لتفجير النفس هو أقصر طريق للحور العين.
لابد أن ننزع عن الأجيال (ثقافة الموت) التي يزرعها المحرفون العابثون بالنصوص الدينية لأهدافهم السياسية وغيرها، وأن نغرس بدلا عنها (تقدير النفس) – أي نفس بغض النظر عن دينها – التي قال تعالى عنها (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأنّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، وأن نعلمهم (حب الحياة) و(إعمار الأرض) اقتداء برسولنا صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إن قامت الساعة، وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها).
إذا استنفدنا كافة وسائل الإقناع مع المتطرفين، عندئذ ليس أمامنا إلا أن نذكرهم بما شدا به فريد الأطرش (الحياة حلوة ..بس نفهمها).
في الختام:-
كنت في رحلة عمل لألمانيا، وذات مساء في بهو الفندق بينما كنت أنتظر الآخرين لتناول طعام العشاء، سمعت عزفًا رائعًا على البيانو لمجموعة من أغاني الفنانة فيروز، تتبعت مصدر العزف لأجده شخصًا ذا لحية كثة طويلة، اقتربت منه وإذ به زميل في عمل سابق! فوجئ برؤيتي في (نورينبيرغ)، وتوقف عن العزف مرتبكًا ثم أصابته نوبة ضحك، وسرد لي شيئًا من تاريخه الفني (وهوايته السرية)، طلبت منه أن يعزف شيئًا من أغاني أم كلثوم ففعل وأبدع، وقبل أن نفترق طلب مني أن (أستر عليه)، وأن ندفن في (ألمانيا) ما رأيت منه من فن!