المقالات

هندرة الجامعات مطلبٌ وطنيٌّ

تحدث صاحبُ الرؤية الوطنية الطموحة سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في 13 نوفمبر 2020 في مواضيع جوهرية تعكس رؤية سموه الكريم حول تطلعات وطنية هامة.
فقد استطاعت المملكة العربية السعودية في فترة وجيزة وسريعة أن تحقق إنجازاتٍ غير مسبوقة في تاريخها المعاصر، وذلك في أقل من 4 سنوات فقط، ويأتي ذلك الإنجاز بفضل الله ثم بجهود حكومية ضخمة قادها سمو ولي العهد بكفاءة واقتدار عاليين.
أسلِّط الضوء في هذا المقال على ما له علاقة بحديث سمو الأمير محمد بن سلمان عن جهود المملكة في تعزيز الإيرادات غير النفطية وتأثيرها على الاقتصاد، إذ قال سموه: “لقد توسعنا في الإنفاق الحكومي المباشر وغير المباشر منذ عام 2005م. ولمواكبة ذلك والحفاظ على التوسع في الإنفاق، قامت الحكومة وفق رؤية 2030 بعملية إعادة هيكلة واسعة لعدد من القطاعات بما يعزز من إيرادات الدولة غير النفطية، ولا يجعلها مرهونة لتقلبات أسعار النفط، وما يؤديه ذلك إلى الحد من قدرتنا على التخطيط ووضع أو تحقيق أي مستهدفات.”

وأتوقف هنا عند الرغبة الطموحة والواعدة لدى القادة في المملكة العربية السعودية في إعادة الهيكلة وإعادة هندسة عمليات الأعمال (Business Process Reengineering “BPR”) ؛ حيث يُعدُّ ذلك نموذجًا ضروريًّا للتغيير التنظيمي من أجل تحقيق الميزة التنافسية، والمرونة لمؤسسات المجتمع المدني ومن أهمها الجامعات الوطنية.

ولأن كاتبة هذا المقال “حظيت” بالعمل في قطاع التعليم العالي الجامعي، وأقول حظيت؛ لأن معايشة تأثير الخصخصة في التعليم العالي ميزة لا نستطيع إغفال أهميتها في رؤية جوانب القوة في نموذج القطاع الخاص. ولذا فإن إعادة الهيكلة في القطاع الجامعي الحكومي أمر هام وحيوي سيحوِّل الجامعات الحكومية من خلال القيادة التحويلية إلى الالتفات إلى مصادر هامة من مصادر التمويل الذاتي، لكن ذلك مرهونٌ بقدرتها على استيعاب أهمية الهندرة Reengineering (أو الهندسة الإدارية) التي تعني قيامها بمبادرات تنظيمية مُحَرِّكة لإعادة تنظيم العمليات والأعمال الداخلية، وإعادة تصميم توجهاتها التى لابد أن تركز أولًا على تقليص الإنفاق وزيادة مصادر الدخل؛ وذلك بهدف تحقيق ميزة تنافسية مع تحقيق الجودة في أداء الأعمال بأقل تكلفة ممكنة وبكفاءة عالية.
هذا الفكر الإداري حديث نسبيًّا؛ إذ ظهر في بداية التسعينيات وبالتحديد في عام 1992م في كتاب بعنوان (هندرة المنظمات) للباحثَين مايكل هامر وجيمس تشامبي، وهو كتاب “أحدث ثورة حقيقية في مجال الإدارة بما يحمله من أفكار غير تقليدية ودعوة صريحة إلى إعادة النظر وبشكل جاد في كافة الأنشطة والإجراءات والإستراتيجيات التي قامت عليها الكثير من المنظمات والمؤسسات استهدف تحسين الأداء والوصول إلى الجودة المؤسسية في زمن قياسي”، لكن تطبيق هذا النموذج يحتاج إلى جرأة عالية في تقليص الأدوار، إذ سوف سيؤدي بلا شك إلى تقليص الإنفاق وتقليل فرص الهدر. ولذا نعود مجددًا إلى حلقة مهمة ومفصلية، وهي سرعة اتخاذ قرارات للتوجه نحو الإدارة الرشيقة lean management التي تعني القيادة وفق هيكلة تنظيمية مباشرة تختصر من خلالها الموارد البشرية والمالية، كما أنها “السلوكيات التي تضيف أو تخلق قيمة، وتخفض مستويات هدر الأفكار والعلاقات غير المنتجة وانخفاض التعاون. وتتسم القيادة الرشيقة بسمات: التواضع، والهدوء، والحكمة، والصبر، والموضوعية، والثقة”؛ وذلك ما يجعل لها إسهامًا فاعلاً في تحقيق الإبداع لدى المؤسسة والعاملين على المدى البعيد.

إن أول إستراتيجية لإعادة هندسة العمليات في الجامعات لابد أن تنبثق من النظر بعين الاعتبار للمصلحة العامة للمؤسسة، وتجاوز المصالح الشخصية ومواجهة تعارض المصالح في الهيكلة الإدارية، والتقليل من الهدر المادي الكبير الناجم من تكرار المهام للجهات المختلفة داخل جسم المؤسسة.

كما أن تحقيق الكفاءة والإنتاجية لا يتأتى بتكرار المهام في أكثر من جهة، ولا تعدد الأدوار للإدارة الواحدة، بل بالتركيز في قيادة عمليات مهام الجامعات الثلاث: التعليم أولًا، ثم البحث العلمي، ثم خدمة المجتمع. ولا يعني تقليص الإدارات التخلي عن هذه المهام إطلاقًا بقدر ما يعني تقديمها بشكل أكثر فعالية من خلال القيادة الرشيقة التي يتقلص فيها بشكل كبير الهيكل التنظيمي للمؤسسة. كما ستلزمنا الادارة الرشيقة بالتخلص من كل نشاط لا يشكل إضافة نوعية واضحة، لتحقيق مهام المؤسسة من خلال أفضل أداء ممكن لتكون المحصلة تحسين المخرجات لينشأ مفهوم جديد هو القيمة المضافة Added Value، وهذا ما نجحت فيها بعض مؤسسات التعليم العالي في القطاع الخاص وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن التي تعد نموذجًا في الادارة الرشيقة؛ حيث نشأت، وهذا الفكر يوجهها، ويقومها إلى الأفضل.

لا أظن بعد عقد من الزمن قضيته في التعليم الجامعي الحكومي -أكاديمية وباحثة- أن هذا صعب المنال، بل يمكن بلا شك تحقيقه بتتبع سياسات عالية المعايير في الشفافية، وحوكمة الاستقطاب، والاستبقاء، والمحاسبية، والمراجعة الدقيقة لكل العمليات الداخلية؛ لضمان الإدارة الرشيقة في عالم دائم التغيير وبشكل متسارع، والحرص على تحقيق عوامل الإبداع فيه من خلال عناصر هامة، منها على سبيل المثال لا الحصر حل المشكلات, والقابلية العالية للتغيير, وتقبل المخاطر وتشجيع الإبداع.
إذن جاء حديث سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -يحفظه الله- الذي يرسم لنا دومًا خارطة الطريق ليؤكد أن كل هذا ممكن جدًّا، وقد توفرت لنا بالفعل بنية تحتية ثابتة وراسخة في المؤسسات الحكومية، ومنها قطاع التعليم الجامعي، ويحتاج فقط إلى الانطلاق من حيث انتهى الآخرون، ولنا في قطاعات الدولة المتحولة مؤخرًا إلى الإنتاجية العالية والكفاءة الذاتية والقيادة الرشيقة أسوة حسنة. سوف يكون هذا الانطلاق بمثابة الخروج من عنق الزجاجة إلى آفاق رحبة جديدة وعهد جديد طال انتظاره ونحن -بمشيئة الله- قادرون، ولنا همة كجبل طويق بإذن الله.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button