قال صاحبي: لكل أمة تاريخ وحضارة، تحفظه، ويحفظها، وتحتفي به، وتنقله من جيل لجيل، اعتزازًا بماضيها، وهويتها، وتنشئة الأجيال عليها، فأمة بلا تاريخ أمة تحتضر، ونحن أمة ثرية بتاريخها المجيد، وحاضرها المشرق، ولكننا بحاجة لخدمة هذا الماضي العريق بجميع أبعاده ومكوناته، وعلى سبيل المثال رحلة العقيلات وربطهم بين الشرق والغرب، لا يكاد يعرف عنها أبناء هذه البلاد، التي انطلقت منها أولى رحلات عقيل إلى خارج الحدود، إلا النزر اليسير.
ولأن العناية بالتاريخ وتأصيل الهوية والانفتاح على العالم سمات تميز عهد الملك سلمان-يحفظه الله- الذي طالما كان إرث هذا الوطن والاحتفاء به، والحديث عنه، والتأكيد على ضرورة الاهتمام به والمحافظة عليه ونقله من جيل إلى جيل، يحظى بعنايته الخاصة؛ حيث يوليه اهتمامًا كبيرًا على الرغم من مشاغله السياسية والاقتصادية، وعمله على ترسيخ العلاقات الدبلوماسية والحضور السعودي في مختلف أرجاء العالم، ولعل إنشاء وزارة تُعنى بالثقافة دليلًا على ما للمكون الثقافي لهذا الوطن من أهمية خاصة، لدى القيادة الرشيدة، ورغبة في العناية به وإبرازه.
ومسيرة العقيلات جزء من تاريخ الوطن خلال حقبة زمنية ممتدة من 1750 إلى 1950م حملت في ذاكراتها قصة كفاح أبناء الصحراء، الذين نقلوا قيمهم وثقافتهم إلى البلدان التي مروا بها، أو سكنوها، حتى اكتسبوا محبة أهلها وثقتهم، وأصبحوا مضرب الأمثال، في الأمانة، والصدق، وحسن الخلق، والإيثار، وكان أهل العراق ومصر وسوريا وفلسطين، عندما يتعاملون مع أحد يقولون له: “خلك عقيلي- عكيلي-” وعندما يغضبون من سلوك أبنائهم، وينتقدونهم يقولون: “ما ربوك عقيل”.
وكنت في صغري أستمع وأستمتع، لأحاديث جدي ووالدي -رحمهما الله-، وهما من تجار عقيل، عندما كانا يستعيدان ذكرياتهما مع ضيوفهم، أوعند توجيه حديثهما لنا على مائدة الطعام، عن تغريبهم (للشام ومصر) وكانت تسمى الغربية، أو حدرتهم باتجاه العراق، وما مروا به من عسر ويسر، وعن التاجر العراقي القدوري الذي كان (يبضع عقيل) أي تمويل بالمرابحة، رغم عدم معرفته السابقة بهم، ولكن سمعتهم كانت الضامن لهم.
وفي المقابل كان عقيل يبادلونهم الثقة بمثلها، فكانوا ومنهم جدي يودعون نقودهم من الذهب والفضة، والريال الفرنسي، (أبو شوشة)، وهو دولار وليس ريالًا، ونمساويًّا، وليس فرنسيًّا!!، عند رجل من يهود العراق يُكنى بأبي سليم، ويأخذون ورقة بمثابة الحوالة اليوم يستلمون فيها نقودهم من عمان من رجل آخر اعتاد عقيل إيداع أموالهم لديه أيضًا، وهو علوي الكباريتي، وبالمثل كان هناك شخص في بلبيس لا يحضرني الآن اسمه، وهذا الإجراء كان يتم من أجل عدم ضياع الأموال، أو سرقتها من قبل قطاع الطرق.
وقد تشرفت بحضور استقبال خادم الحرمين الشريفين لضيوف الجنادرية31، وقد تحدث إلينا بهذه الكلمات التي تُمثل خارطة عمل لوزارات الإعلام، والتعليم، والثقافة، والسياحة: “إن هذا المهرجان معلم إشعاع ثقافي سعودي يجمع أبناء الوطن ومناطقه بتنوع تراثها وفنونها في صورة حضارية تعزز قيم الارتباط والوطنية والانتماء، وإن الحفاظ على هويتنا العربية والإسلامية وتراثنا وثقافتنا وأصالتنا من أوجب واجباتنا، ومكانة كل أمة تُقاس بمقدار اعتزازها بقيمها وهويتها”.
قلت لصاحبي:
التاريخ بنك مليء بالكنوز، ولكنها بحاجة لمن يكتشفها ويرصد تأثيراتها على الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، وتاريخنا غني بكنوزه الأصيلة، ليس المهم البحث عنها واستكشافها، بل تقديمها للعالم من خلال السينما، فالفيلم الواحد إذا أحسن صناعته، قوة ناعمة وسفير حضاري بالغ الأهمية، وتأثير فيلم واحد على الجمهور يكاد يُضاهي تأثير عشرات الكتب، وآلاف المقالات، مع عدم التقليل من أهمية الكتابة والكتاب.
0