د. عبدالله علي النهدي

المثقف الجاهل

ربما يكون الغالبية منّا إن لم يكن جميعنا نعرف من هو المثقف ومن هو الجاهل؟ ونعرف الفرق بينهما، لكنني أجزم أن الأكثرية لا تعرف من هو المثقف الجاهل؟ وما هي أهم صفاته؟! هذا الكائن الذي برز مؤخرًا، وتكاثر على الساحة نتيجة إفرازات لعدد من الظواهر خلال العقود الأخيرة؛ وأهمها انتشار ظاهرة المجتمعات الافتراضية التي جاءت كنتاج لتعدد وسائل التواصل الاجتماعي؛ الأمر الذي أسهم في انتشار ثقافة الجهل. المثقف الجاهل هو الذي يُنادي بحرية التعبير، وهو أكثر من يقمع حرية الآخرين، فهو يكافح من أجل تلك الحرية ثم يكون أول من يغتالها، يدعي أنه يقدس اختلاف الرأي بينما تجده أول من يرفض، ويزدري الرأي الذي يخالف رأيه، بل ويسعى إلى حرمان الآخر من مجرد التعبير عن مشاعره.

المثقف الجاهل يتسلق على المبادئ والقيم، ولكن لديه قدرة عجيبة على التضحية بها في أية لحظة يجدها تصطدم بأفكاره. إذا كانت الحرية الشخصية تنتهي؛ حيث تبدأ حرية الآخرين، فحرية المثقف الجاهل تبتدئ من على أعتاب باب حرية الآخرين، بل ويعطي لنفسه الحق في التغلغل إلى أعماق نفوسهم وتفسير نواياهم كمسلمات وثوابت يجب أن يقروا بصحة تفسيره لها. باسم حرية الرأي يعطي لنفسه الحق في انتقاد أكبر رموز السياسة في العالم، وتحت شعار حرية الفكر يجادل أشهر فقهاء الأمة، ولكن في المقابل عندما يتبنى فكرة معينة حتى لو كانت مأخوذة من أبسط الناس، أو مقتبسة من رواية سخيفة، تجده يهاجم وبشراسة كل من ينتقد تلك الفكرة، بل ويشنع بمن يحاول انتقاد مصدرها.

يؤمن بالتخصص عندما يريد إغلاق باب النقاش حول موضوع لا يروق له، أو حينما يشعر أن الحوار يتجه في غير مصلحته؟ ولذا يحاول الإنكار على الطرف الآخر بأن يتحدث في موضوع وهو ليس متخصصًا فيه، لكنه في ذات اللحظة ربما تجده يقوم بتحليل استراتيجية مواجهة خطر الزوارق النازية التي أدت إلى إغراق أساطيل الحلفاء في مياه الأطلسي وكأنه أحد خبراء البنتاجون. عندما يريد الانسحاب من نقاش معين تجده مراوغ من الطراز الأول، فقد تجاوز أساطير كرة القدم في إجادة فن المراوغة؛ فهو لا يعترف بخطأ رأيه ولكن يحاول الالتفاف على الطرف الآخر ما استطاع، فلربما يلقي بنكتة أو يستشهد بقصة طريفة لتشتيت تفكير الآخرين فالأهم لديه أن يتحايل للخروج من موضوع النقاش دون أن يعترف بصواب رأي من يناقشه، بل أن توافق آراء الآخرين مع رأي الطرف المختلف معه يعتبر هزيمة بالنسبة له، وأما أن يعترف هو بصحة رأي منافسه فهذا من ضرب الخيال بل، ويعده استسلامًا أقرب للفضيحة.

لا شك أن التناقض سلوك غير طبيعي، ومع إقرارنا بذلك فلا يستطيع أحدٌ منا أن يبرئ نفسه من ذلك الشيء؛ حيث إن الجميع لديه قدر من التناقض قد تحتمه ظروف الزمان والمكان، والمثالية المطلقة لن تكون موجودة في عالمنا، فالتناقض يبقى سمة من سمات البشر، ولكن الاختلاف يأتي في درجة التناقض؛ فإذا كان التناقض في حدود المعقول والمقبول وفي إطار الضرورات التي تحدث؛ فهذا أمر طبيعي ومن خصائص الطبيعة البشرية، لكن الشخص الذي يشعر بأنه يتسم بدرجة عالية من التناقض الذي يصل به إلى درجة كبيرة من المعاناة والاصطدام بالآخرين، كما يستشعر ذلك في تحاشي الناس لمناقشته أو مخالفة رأيه ليس اقتناعًا منهم بما يقول؛ وإنما تجنبًا لمجادلته وسلاطة لسانه ومراوغاته، كما هو الحال مع المثقف الجاهل؛ فينبغي له وعلى وجه السرعة البدء في خطوات العلاج من هذا الداء الخبيث قبل أن يعتزله الناس ويجد نفسه منبوذًا، ولذا عليه مراجعة نفسه وإعادة حساباته، وأن يضع نصب عينيه مقولة الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. وإذا استعصى عليه الأمر فليس معيبًا أن يذهب إلى أحد المختصين في مجال الطب النفسي؛ لتشخيص حالته والعمل على إعطائه العلاج المناسب.
خير الكلام:
قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ﴾

—————————
عضو هيئة التدريب في معهد الإدارة العامة

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button