المقالات

تعليمنا إلى أين…؟! (2-2)

فيضٌ من النبع:
حريٌّ بنا أن نقول عندما نصادف شخصًا يتحدث بما لا طائل منه: فلان لا يتفلسف!
لأن الفلسفة نشاط يؤجج أسئلة تُفضي إلى معرفة.. تفلسفوا يرحمنا ويرحمكم الله …
زيد الحمداني

نظمٌ استهلالي:
يقول كانط في كتابه ذائع الصيت (نقد العقل الخالص) بأن لب قوله وخلاصة فكره في هذا التأسيس الفلسفي هو تمحيص نقدي حصيف للعقل مستقلًّا عن التجربة، وهذا القول لا أبتغيه هنا من خلال بث هذه الأفكار والمعالجات التشخيصية، بل أريد خلافه، بمعنى تشخيص واقع وفق ممارسة سائدة في معظم البيوت في بلادنا الحبيبة، فالتشخيص يكون لواقع التجارب التي تفسرها الممارسات، فعلينا تأمل هذه الممارسات لنتعرف على مكامن الخلل، فتشخيص الداء نصف الدواء كما يقول الحكماء، ولا بد أن يكون التشخيص شاملًا لأسباب حدوث الخلل، فعلى سبيل المثال وجدنا ممارسة سلبية، نبحث في أسباب ممارستها، هل هي بسبب التنفيذ؟ أم بسبب المدخلات؟ أم بسبب القناعة الفكرية؟ فمعرفة السبب توصلنا لإيجاد عمليات إصلاح جذرية وتأهيلية للعقل. فالعقل مارد كامن، ينبغي تحفيز قدراته للبحث عن توظيف المعرفة المشاعة الآن عبر الشبكة العنكبوتية، فلم تعد المعرفة مهمة بقدر أهمية توظيفها لمتطلبات المستقبل الباهي، ففي العقل العلاج الفاعل، فلا بد من تهيئته وإعداد الناشئة وتأهيلهم لمتطلبات عصرهم بإجراءات فيها “تخلية وتحلية” كما يقول الفقهاء “تخلية” للأفكار السلبية و”تحلية” بالأفكار الإيجابية، وتنمية قدرات المتعلم “كما يريد هو لنفسه” بتوفير بيئة تقدم له أسباب تحقيق مستقبله الذي ينشده في عالم مخيف متبدل، فالعقل خير المواهب، فهو كامن في الإنسان، لا يظهر حتى يظهره الأدب وتقويه التجارب، فإذا استحكم كان هو السابق إلى الخير والدافع لكل ضر، فلا شيء أفضل من العقل والأدب، فخير المواهب العقل، وشر المصائب الجهل، كما يقول أديب العربية ابن المقفع، والعقل غرس له بالصدق إثمارٌ، وفق وصف شيخ معرة النعمان.
والمتأمل لواقع الممارسات التي تتم عبر منصة “مدرستي” يلحظ وجود فجوة ذهنية تتمثل في عدم الاقتناع لدى شريحة واسعة بأن يمارس هو بنفسه التعليم عن بعد، فتجد عدم الاهتمام واللامبالاة وشرود الذهن عن التحصيل الدراسي؛ مما يتسبب في وجود فجوة نفسية أسهمت في تقليل الدافع وانعدام الحافز، وهنا بيت القصيد، فهذا مكمن الخلل و”أصل الداء” الذي ينبغي أن نوفر له الدواء عبر إصلاحات جذرية؛ سعيًا لإصلاحه وإعادة برمجته ليكون منفتحًا “مقبل غير مدبر” راغبًا هو في تشكله لمتطلبات التغيير، ويكون تحقيق ذلك من خلال ملامسة الخلل وتوفير الاحتياج له، ففي العقل شرارة الاتقاد، شريطة تفكيك عالمه وطلاسمه، وكلما زاد تعمقنا فيه زاد خيالنا لما يجب أن يكون عليه، وينبغي أن نتذكر عند تعاملنا مع العقل لإرشاده وإصلاحه أنه حقل ألغام، يتوجب علينا أن نتعامل معه بالأصول الحاكمة للتعامل مع هذا “الكنز الاستراتيجي”، فإذا كان الفاقد التعليمي في مدارسنا “تحصيليًّا” فإن الفاقد التعليمي “فلسفيًّا” هو العقل، فإن حدث وأمكن إصلاحه وبرمجته وفق متطلبات المرحلة المبنية على معطيات الواقع؛ فإن هناك عوامل معينة لتحقيق ذلك الأمل، هذه العوامل يمكن أن نطلق عليها “متطلبات التعلم عبر المنصة لأهم ركائز العملية التعليمية” وسيكون حديثي عنها وفق حاجتها وهي للإرتقاء برؤية فلسفية تحاول تفكيكها لاستخلاص إمكانية التغيير، لنسير بها نحو نتيجة نقتنع بها ونسعد بالمساهمة في تأسيسها، من خلال أجمل عطاء للارتقاء بالتعليم لتحقيق رؤية بلادنا الحبيبة 2030، وحدوث ذلك مشروط بالتوافق بين القناعات والممارسات عبر مدخلات موضوعية لاستراتيجيات تنبثق عنها ممارسات مجربة نافعة، تستوجب منا لها التقويم التكويني المتدرج في البناء وليس التصادم، فهيا بنا نحاول، فليس هناك شيء أفضل من الحلم لصناعة المستقبل، كما يقول فيكتور هوجو.

متن فلسفي“:
في فلسفة علم المنطق يجب عدم التناقض، والجمل في المنطق غير الجمل في النحو، فالجمل في النحو إما اسمية تفيد الثبات والدوام، أو فعلية تفيد التجدد والاستمرار،
أما في المنطق فيكون ذلك من خلال مقدمتين “صغرى وكبرى” ونتيجة، كما يقول سقراط، ففي علم المنطق هناك مألوف وغير مألوف، فيه “تناقض وتضاد”، وهو ما سأحاول سبرَه هنا لإيجاد سبل المعالجة التشخيصية “الإكلينيكية” كما يطلبه علم المنطق “مقدمة صغرى، مقدمة كبرى، نتيجة” كتشخيص فلسفي لداء واقتراح لدواء.

عناصر الرؤية:
مقدمة صغرى – تعليمنا إلى أين “1-2” الاستهلال والتوطئة.
مقدمة كبرى – تعليمنا إلى أين “2-2” النظم والمتن ومتطلبات التعلم.
نتيجة.

متطلبات التعلم:
استخلاص هذه المتطلبات يكون من خلال احتياج عناصر العملية التعليمية لما تريد هي وفق الانتقال من التعليم التقليدي إلى التعليم عن بعد، فما زال هناك وقت للحكم أيهما أفضل، لكني هنا سأوجز متطلبات كل عنصر وركيزة وفق احتياجه مع هذه المرحلة الجديدة:
إدارة “مركزية أو تنفيذية”:
يجب أن تكون مهنية مرنة محفزة، تمنح الثقة وتعزز الانتماء وتحقق الأمن الوظيفي، تعمل وفق استراتيجيات ثابتة وخطط علمية مدروسة، تؤسس للانطلاق وتترك التقييد، تكوِّن القيادات الفاعلة، تعد المعلم، تقدم التعلم على التعليم، تجدد اللوائح والأنظمة المتقادمة، تُوجِد نظامًا إداريًّا فاعلًا حازمًا يفرق بين العامل والخامل.

بيئة تعلم:
يقول ابن خلدون في أهمية البيئة: “قل لي ما بيئتك، أقل لك من تكون” وبيئة هذه المرحلة تختلف عن البيئة داخل المدرسة التي كانت حضنًا لهم، أما الآن فعزلة أو مع الأهل فقط داخل البيت، ولكل أسرة بناء مختلف، وهذا يؤكد تعدد وتنوع البيئات في مجتمعنا السعودي الكبير، فينبغي مراعاة الفروق الفردية والبناء عليها لتشكيل بيئة تناسب متطلبات التعليم عن بعد. ومن إيجابيات الحضور للمدرسة المفتقد الآن هو الاحتكاك بالأقران، والانفعالات النفسية، وهذا أمر لا يعوض نهائيًّا، خاصة لمن يتفهم خصائص نمو طلاب المرحلة الابتدائية والصفوف الأولية على وجه الخصوص. فالمتعلم انتقل من حضن المدرسة إلى عزلة الجهاز، فلنجعل من العزلة نجاة.

مدرسة:
يتساءل شيخي العلامة على الطنطاوي -رحمه الله- في أحد كتبه النافعة “أيهما أفضل، مدرسة الأمس أم اليوم؟” وقد فضل مدرسة اليوم إجمالًا، فما نحن فاعلون تجاه مدرسة المستقبل التي حلت بنا مع قدوم الجائحة؟ فالعالم من حولنا يتبدل، وجل تلك المتغيرات ضد حياة الإنسان الآمنة، فالسعي دائم لإحلال الآلة بدلًا عن الإنسان في القطاعين العام والخاص. ومدارس التربية اليوم فيها من ينادي بعالم بلا مدارس، وبعضها ينادي ببناء العقل غير المدرسي والانتقال من مرحلة التمدرس إلى مرحلة اللا تمدرس، وهي فلسفة حديثة تسعى لاستعادة الإنسان لعربة تعلمه وقيادتها بنفسه، وأصحاب هذا التوجه يرون أنه ينبغي للمدارس أن تكون مكانًا يتعلم فيه الأطفال ما يريدون أن يعرفوه بدلًا من أن تكون مكانًا لما نظن أنهم ينبغي أن يعرفوه.

المتعلم:
أهم متطلب لديه هو توليد قابلياته، والقابلية التي أعنيها غير التي كتب عنها المفكر الكبير مالك بن نبي، فتلك عن الاستعمار وهذه عن الاستثمار في جيل المستقبل، ومن جماليات مرحلة التعليم عن بعد أنها نقلت المتعلم من التلقي إلى متطلب يفتقده أكثريتهم وهو “التعلم الذاتي” الذي يتطلب تأسيسًا مهاريًّا يعدهم للحياة لا لمجرد الاختبار، ولنتذكر بأنه بدون “دافعية – قدرة – ممارسة” لن يحدث تعلم، فجيل اليوم مقاوم للتنميط متفاعل مع التقنية، وطلاب اليوم يصرخون بحلاوة شعر ناصر الفراعنة مرددين : الأرض أرضي … والزمان زمانيه

المعلم:
بالرغم من تعدد مصادر التعليم الآن، فقد أكد المعلم أنه حجر الزاوية الأساسي، فقد كان دوره الأبرز في التناغم مع المتغيرات، وأن أي تطوير يتجاوزه مصيره الواد، وحاجته الآن الارتقاء به لمرحلة أفضل، من “مدرس” داخل حجرة الصف إلى “مُلهِمٍ” محفز مشجع موجهٍ لطلابه عبر الأثير، مرددًا قول الأمير شوقي:
فعلم ما استطعت لعل جيلًا.. سيأتي يحدث العجب العجابا

منهج:
يمثل الفلسفة التي ينطلق منها العمل لتحقيق الحلم، وهي “القيم الأخلاقية” التي تعد الملاذ الآمن للارتقاء بالفكر، فهي الضابط الحقيقي للتوافق بين القناعة والممارسة، ولنا في تجارب أهل الفلاح فلاحٌ.

نتيجة:
لتحقيق النتيجة علينا خلع النظارة لنرى حقيقة الأشياء كما يقول كانط، وفي علم الجغرافيا تزداد الرؤية باتساع دائرة الأفق، آمل أن نتفهم طبيعة المرحلة ونبادر لإيجاد تعلم حقيقي عن بعد، وأن لا تتحقق فينا نظرية “الكهف” التي قال بها الفيلسوف الأبرز أفلاطون، وملخصها يؤكد “عدم وجود معرفة حقيقية” وما بدأت به سلسلة هذه الأفكار جعلت لها عنوان كتاب شيق “تعليمنا إلى أين” للبروفسور زهير السباعي -رزقه الله العفو والعافية- وقد طالب بضرورة التغيير المستقبلي، وحاجة المجتمع الآنية والمستقبلية لتعليم متغير، وأنا لا أطالب بعالم “المُثل” الذي دعا له أفلاطون في مدينته الفاضلة، بل أطالب بواقع متدرج، فيه صعوبات ومعوقات، أهمها الذاتي المتعلق بالفرد وحده، فالذات هي القائدة: واعرف نفسك.. كما يقول المعلم سقراط.
عذرًا للإطالة.. شكرًا لكم.

Related Articles

One Comment

  1. شكرا أيه الشدوي التربوي العميق والمعلم الممارس
    دمت مبدعا
    ليت قومي في الوزارة وتعليم الباحة يستفيدون من أمثالك …فكرا وخبرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button