د. عبدالله علي النهدي

مشاعر السجّان وفقه الإمام

لما سُجن الإمام أحمد بن حنبل جاءه السجّان فقال له: يا أبا عبد الله!! هل الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟
قال الإمام أحمد: نعم.
قال السَّجَّان: فأنا من أعوان الظلمة؟
قال الإمام أحمد: فأعوان الظلمة من يأخذ شعرك (الحلاق)، ويغسل ثوبك، ويصلح طعامك، ويبيع ويشتري منك؛ أما أنت فمن الظلمة أنفسهم.

هذا السجّان كان يشعر بتأنيب الضمير؛ حيث كان لديه شك أن طبيعة عمله جعلته ممن يسهم في الإعانة على ظلم الآخرين، لكنه تفاجأ بجواب الإمام أحمد أنه ليس مجرد معين للظالم فحسب؛ بل هو من الظلمة أنفسهم. فيا ترى كم منّا من يمارس الظلم بعلمٍ منه أو عن جهلٍ دون أن يستيقظ له ضمير أو تتحرك مشاعره، لقد اعتاد الكثير من الناس على ممارسة الظلم دون إحساس، بل يمارس ذلك معتقدًا أنه يقوم بدوره الطبيعي ويمارس صلاحياته التي كفلها له الشرع والنظام. ولو أردنا أن نأخذ نماذج لأنواع الظلم الذي يقع بين الناس سنجد أن من الصعوبة بمكان حصرها في مقال واحد فهي كثيرة، ولكننا سنحاول الإشارة إلى أهمها؛ ومن البديهي أن نبدأ بالأسرة كونها نواة المجتمع والمؤسسة الأولى التي تسهم في تكوين شخصية الفرد.

تبدأ أولى خطوات الظلم في حياة الأسرة لحظة تقدم الرجل لخطبة المرأة بخداعها وإظهار نفسه بسمة الصلاح والاستقامة التي يتبين فيما بعد أن لا وجود لها في قاموسه، إضافةً إلى قطع الوعود على نفسه وتعهده بتحقيقها، ثم يجحد تلك الوعود بمجرد دخولهما عش الزوجية، ويتبع ذلك بسوء العشرة وقسوة التعامل مع الزوجة والتطاول عليها بمد اليد أو حتى بالسب والشتم واللعن، ومناداتها بأقبح الألفاظ أو ذكر أهلها بسوء، وربما منعها من زيارتهم والبر بهم. كما أن بعضهم يكلف الزوجة بما لا تطيق من أعمال المنزل؛ فتجدها مسؤولة عن كافة احتياجات الأبناء من طبخ وغسيل وتنظيف ومذاكرة ومتابعة لهم، بل ربما أسند لها مهمة الذهاب بنفسها لشراء احتياجات المنزل، والأدهى والأمر عندما تكون لديه القدرة على مساعدتها أو إحضار من يعينها على تدبير أمور المنزل، فلم يقتدِ بخير البشر عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ” سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ – تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ – فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ”.
وربما تفشل مسيرة الحياة الزوجية وتتوقف، لكن مسلسل الظلم يبقى مستمرًا فعندما يحدث الطلاق، تجد الكثير من الأزواج يجهل أو يتجاهل مبدأ إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، بل يبدأ بممارسة ألوان جديدة من الظلم بدءًا من تركها معلقة دون طلاق، أو يطلقها ويماطلها في استخراج صك الطلاق، ثم يتركها تصارع صعوبات الحياة وحيدة دون الإنفاق عليها وعلى أولاده وربما يبتزها بحضانة الأطفال وحرمانها منهم. الزوجة هي الأخرى قد تمارس صورًا متعددة من الظلم تجاه زوجها بدءًا من إساءة الظن به مما قد يحول حياتهما إلى جحيم، وهناك من الزوجات من تحمل زوجها فوق طاقته وإمكاناته المادية وتقارنه بغيره من الموسرين من أقاربه أو أقاربها وأزواج أخواتها أو صديقاتها، وهناك من تسيء إلى أهله ولا تبدي لهم أية اهتمام أو أدنى احترام، بل إن هناك من تسيء التعامل مع الزوج نفسه في القول والعمل، وقد يصل الحال ببعضهن إلى تعنيف الزوج.
وإذا انتقلنا إلى المؤسسة التعليمية وهي الجهة المسؤولة بعد الأسرة عن التربية وزرع القيم النبيلة نجد عدد من أساتذة المدارس والجامعات ممن يمارس الظلم تجاه تلاميذه من خلال تعامله السيئ معهم، فقد يعنفهم ويقسو عليهم سواء من خلال الألفاظ أو التعدي بالضرب أو من خلال تكليفهم ما لا يطيقون من الواجبات؛ وكأن هؤلاء الطلاب ليس لديهم ما يدرسونه سوى مادة ذلك الأستاذ، ومن أبشع صور الظلم التي يمارسها الأستاذ تجاه طلابه عدم العدالة في إعطاء كل طالب ما يستحق من درجات.
المؤسسات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص بمختلف أنشطتها واختلاف أحجامها هي الأخرى لا تخلو من أن تكون مسرحًا لنماذج مختلفة من روايات الظلم، تبرز أهم ملامحها في علاقة الرئيس بالمرؤوسين بدءًا من التعامل معهم وتكليفهم بناءً على المجاملات والمحسوبية؛ وانتهاءً بتقييم أدائهم وتحفيزهم وفقًا للعلاقات الشخصية، وفي المقابل يمارس كثير من الموظفين أصناف من الفساد الإداري والمالي الذي تضيع معه حقوق الناس المتعاملين والمستفيدين من خدمات تلك الجهات. ورغم اتفاقنا مع الشاعر الجاهلي طرفة ابن العبد حين قال:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
على المرءِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهنّد
إلا أن ظلم النفس يبقى الأشد قسوة، وإذا كانت صور ظلم النفس متعددة؛ فإن أكثرها شناعةً الشرك بالله؛ قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، كما أن من صور ظلم الإنسان لنفسه مبالغته الشديدة في الإيثار ومحاولة نفع وخدمة ومجاملة الآخرين على حساب صحته ووقته وعمله وسائر مسؤولياته. وفي كل الأحوال يبقى الظلم والجهل طبيعة إنسانية وضحها المولى -عز وجل- في قوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). والإنسان كما قال ابن القيم: “خلق في الأصل ظلومًا جهولًا، ولا ينفك عن الجهل والظُّلْمُ إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويُلهمه رشده، فمن أراد به خيرًا علَّمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه فخرج به عن الظُّلْمُ، ومن لم يرد به خيرًا أبقاه على أصل الخلقة.
خير الكلام:
يقول المولى عز وجل في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا).
——————————–
عضو هيئة التدريب بمعهد الإدارة العامة

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button