“من لا يعرف شيئًا لا يحب أحدًا، ومن لا يستطيع أن يفعل شيئًا لا يفهم أحدًا، ومن لا يفعل شيئًا لا قيمة له، أما من يفهم فسوف يحب ويلاحظ ويرى، وكلما ازدادت المعرفة بشيء عظُم الحب.. ومن يتصور أن جميع الثمار تنضج في موسم نضج الفراولة لا يعرف شيئًا عن العنب.” “باراسيلسوس”.
بهذا ختم أريك فروم كتابه “فن الحب”، والذي يعتبر طريقةً شرعية أخرى لفهم الحب وزاوية أخرى لذلك العالم المتعدد الرؤى، يقل التضاد في هذا المجال، وحتى مع وجوده يمكن الخروج بنتائج صائبة لكلا المتضادين، ولعل هذا الموضوع من أول تلك الموضوعات وأصلبها عودًا.
تذهب حياة الكثير، وهو ينتظر ذلك الحب الذي يسكنه دون علمه ويداخله دون طلبه (حب أول نظرة)، و(بريد القلوب)، و(استيطان الكيان في الكيان)، وكل تلك العبارات التي توحي بسوقه لك إجبارًا، أو ما تصنعه مصادفات العشاق، ولكن “أريك فروم” نحى بطريق أو بآخر تحليل الحب على أنه مكتسب في أحايين كثيرة؛ حيث حاول ربط الحب بالإدراك والمعرفة والبذل، وقيامه بتوازي مع الجهد والنماء الذاتي، فأنت تتعلم لتنمو وتنمو لتدرك وتدرك لتعمل ثم تعمل لتنجح في الوصول إليه، ولن يأتيك إلا بقدر ما تصنع له أرضًا يقوم عليها، وبيئة صالحة للعيش؛ وبهذا تنتهي سيناريوهات الحب المفاجئ كما يراه.
ليس الحب لدى أريك قطرة تتجنب رأس غيرك؛ لتسقط على رأسك كما أنه ليس حظًا خُص به أحدهم دون الآخر، بل هو شيء تبذل ربما عمرك في خلقه وتفني حياتك في صناعته، ليصبح حقيقيًا مكتمل النمو، قادر على البقاء، وقد يُفهم منه أنه يؤسس لحياة الحب الحقيقة، والتي تحتمل البقاء أكثر من الفناء (أعنى حياة الحب)، ويصادر بالضرورة العلاقات العابرة التي تأخذ صفة “المولود ميتًا”.
الكثير يرى أن الحب شيء يُزرع فيه وربما هذا سبب الكثير من المشكلات، والكثير الكثير من قضايا الانفصال تدور في هذا الفلك, فبما أن الحب لم يخلق فينا لبعضنا ومادام فطريًّا فلا يمكن معه البداية كما يمكن التنبؤ بالنهاية قبل النهاية، فالذي يعيش مع زوجته مثلًا ينتظر أن يسقى بحبها مع لبن أمه، وهي الزوجة الصالحة الأم الرؤوم، ولكن للأسف “لا يحبها”، ولأجل ذلك يعيش على مضض وفاءً أو ينفصلا ليبحث عن ذلك الحب الموهوم، وكذلك الزوجة تعيش مع رجل كأفضل ما يكون خلقًا وقيمًا، ومع ذلك تمدح خلقه، وتختم بأنها “لا تحبه” وتجعل خيار الانفصال وشيكًا، بل وربما تشكر نفسها على مفازات الصبر التي قطعتها في محاولة تهميش ذلك الشعور.
هذا مشهد متكرر وبشماعة عدم وجود قاعدة للحب يبررون لأنفسهم هدم الأسرة، وانعدام الخيارات، ونهاية الطريق لتلك العلاقة التي لو غُذيت بما تحتاج لأصبحت حبًا مكتمل الأركان.
نعم يكون فطريًا، ويكون مكتسبًا، ولكلٍ وضعه ومداره، ولن نغفل هذا ولا ذاك، وكما أن الأم لم تتعلم كيف تحب طفلها، ولم تتكلف أخذ دورة تدريبية تصنع تتقن بها ذلك الحب، إلا أن التربية السيئة والقسوة تخلق ابنًا لا يحب أباه، ويغيب الحب تمامًا كأن لم يخلق، وهنا فطري ومكتسب باختلاف درجته ونوعه.
أخيرًا ….. بين فطري ومكتسب سيكون محل النزاع في عقولنا، ولكن تأكد أن الفطري كذلك -لوقلنا به جدلًا- لن يبقى على فطريته مالم تتعاهده بالاهتمام، وتتواصى عليه بالرعاية، وتعيشه حبًّا.