المقالات

سيرة تقنية!

[سيرة قصيرة جدا]

تلحُّ عليَّ رغبة في مقاربة العالم الافتراضي بالعالم الواقعي، لاسيما أن سرعة الزمن التقني، وهي المعادل لسرعة الضوء، تتيح هذه المقاربة، إذ بدأ الكائن التقني في عالمنا العربي من بعد عام 2000م، في صيغته التواصلية عبر الشبكة العنكبوتية، وهي سنة الميلاد لطفولتنا الافتراضية.

في ذلك اليوم ولدت تقنيّا. كنت وقتها ألتقم الماوس، كما يلتقم الطفل ثدي أمه، بصعوبة بالغة. كان يراوغ يدي وجوديّا، حتى إذا روّضته شرعت في الدخول عبر بوابة موقع الردادي. يومها كان هذا الموقع شبيها جدا بأحواش الكعكي القديمة في مكة، منطقة عبور إلى المنتديات فقط.

قضيت مرابع طفولتي في حقول منتديات سوالف ليل، فنشأت وترعرعت حتى عيّنت مراقبا عاما برتبة مشرف، ثم لما شببت عن الطوق انتقلت إلى حي جديد، فصي منتديات جهات الثقافية، وهناك عشت فترة من عمري في هذه الإقطاعية التقنية إلى أن بدت أعلام زرقاء تخفق من وراء الأفق. قيل لنا إنها مرحلة جديدة ستمنح كل فرد حق التعبير عن ذاته دون الحاجة للوصايات التقنية ولا الرقابة الصارمة، وستكون المسؤولية الفردية هي ضابطة الضمير الأخلاقي. فرحنا بهذا، وبعضنا امتعض لأنه شعر بزلزلة وجوده الإداري واستغناء الناس عن وصاياته وأوامره ونواهيه. لكني، وأقول هذا حقا، فرحت بهذا التحول الفردي الجديد لكثرة معاناتنا من الإقطاعيات والتسلّط والمسؤولية الجماعية التي تجعلنا مؤتمنين نحرس سخافات المواطنين المنتدياتيين ونقوّم سلوكياتهم وكتاباتهم تاركين أبناءنا في الشوارع.

دخلت إلى عالم التواصل الاجتماعي من بوابة الفيسبوك فوجدت من سبقني من أصدقاء وزملاء المنتديات “متبطّحين” على أرصفة مدينة الفيس تومض أيقوناتهم، وقد بدوا سعداء بالحرية الجديدة التي مُنحت لهم وخلّصتهم من شرّ الرقيب وجولاته.
في البدء أنكرت العالم الجديد وكنت أتلمّس اللايكات كمن يجس نبتة جديدة في خلاء تقنيّ لا يدري يأكلها؟ أم يشمها؟ حتى أدركت بعد تجربة أنها من الكلأ المباح.
وبعد إقامة لم تدم طويلا وجدتني في هذا العالم قد انغمرت بشعور تواصلي حميم أنساني حليب الماوس القديم!

ثم شرعت في بناء عالم مواز في مدينة تويتر، فوجدت ما وجدت من جنون العالم الجديد. عالم يعترضك فيه صبي بشاحنة وترى فيه الشيخ العجوز على دراجة هوائية يحرّك قدميه بلا جنزير. عالم فيه من تداخل الأجيال والأزمنة ما يشعرك أنّهم خارج الزمان.
أخذت بعدها أتقلّب بين البرامج التواصلية والتطبيقات التقنية حتى شعرت أني خارج ذاتي الواقعية، وأنه لكي يمكنني الدخول إلى ذاتي في الواقع أحتاج إلى رقم سري جديد لإعادة تأهيلي واقعيّا.

اليوم، وفي ذات الوقت الذي أكتب فيه سيرتي التقنية بإيجاز شديد جدا، ألمح في الأفق ملامح تحوّل شفاهي جديد قد يعيدنا إلى قراءة الجاحظ لتلافي عيوب الخطاب والتركيز على مقومات البلاغة الجديدة، والويل في هذا العالم لمن سقطت منه سنّ، حتى وإن كانت سنّ حمار، أو فقد شيئا من جهازه الصوتي، فالمجد القادم للحلق واللسان ومخارج الحروف!
لاح في أفقنا اليوم ما يمكن تسميته بالشفاهية التقنية حيث بتيح برنامج الكلوب هاوس غرف دردشة صوتية بنظام شلل الاستراحات من طريق دعوات الأصدقاء في زي ثقافي حواري، حسبما فهمت من تباشير هذا العالم الذي أطلّ في صياغة أيسر لغرف البالتوك، وهي الأخرى لا أعرف عنها أكثر من أنّها غرف حوارية مغلقة.

من الماوس إلى الكلوب هاوس، وربما في المستقبل تظهر تحولات جديدة يتم فيها تعليب مداركنا وحواسّنا واحدة تلو الأخرى لإنتاج كينونة تقنية تستهلك المنتجات وتقف موقف المستقبل السلبي غير المنتج، في سباق مع الزمن التقني خارج الزمن الواقعي الذي صارت أطلاله في ذاكرتنا تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى