المقالات

الإدارة بالنقر

في مطلع عشرينيات القرن الماضي؛ وتحديدًا في عام 1921م توصل الباحث النرويجي “ثورليف شيجلديروب” إلى أن الدجاج الذي يعيش في مجموعة واحدة، يحكمه نظام اجتماعي هرمي، يتم من خلاله ترتيب جميع الدجاج بحسب القوة والهيمنة؛ حيث إن هناك دجاجة واحدة تسيطر على المجموعة، ويكون لها الحق في نقر جميع دجاجات المجموعة، في حين أنه لا يُمكن نقرها من قبل أي دجاجة أخرى. أما الدجاجة الثانية التي تليها في الترتيب الهرمي، فيُسمح لها بنقر جميع الدجاجات ما عدا دجاجة واحدة، وهي التي تسبقها في الترتيب الهرمي، كما أنه لا يمكن نقرها إلا من قبل تلك الدجاجة الجالسة على قمة الهرم، ويستمر الترتيب تنازليًّا بهذه الصورة حتى يصل إلى قاعدة الهرم؛ حيث توجد دجاجة واحدة يستطيع الجميع نقرها فيما لا تستطيع هي نقر أي دجاجة في المجموعة، وقد تم توثيق هذه الظاهرة بعد ذلك تحت مسمى “Pecking order” أو “ترتيب النقر”، ورغم مرور مائة عام على فلسفة الباحث النرويجي في علم الحيوان ثورليف إلا أن الكثير من المبادئ الإدارية، ونظريات التنظيم المطبقة حاليًّا في كثير من المؤسسات مازالت تستمد أسسها، وفرضياتها من خلال فلسفة نظرية نقر الدجاج، بل وتراهن على نجاح هذه الفلسفة وصلاحيتها لإدارة منظمات القرن الواحد والعشرين، رغم ما فيها من المآسي.

إن تبني بعض الإدارات لهذه الثقافة يعزّز الخوف وعدم الثقة في النفس لدى الموظفين، بل ويقتل روح المبادرة والابتكار؛ حيث يحجم الموظف عن المشاركة والتفاعل وإبداء الرأي إلا حينما يشعر أن رأيه يتفق مع رأي من هم أعلى منه في التسلسل الهرمي؛ خوفًا من أية ردة فعل سيئة أو عقوبة وحتى لا تضعه الإدارة خصمًا لها، ورغم محاولات وسعي الكثير من الموظفين لتغيير هذه الثقافة إلا أنهم سرعان ما يدركوا استحالة إحداث أي تغيير في فلسفة الإدارة، وعندها لا يملك الموظف الكفء إلا أن يقوم بالبحث جديًّا عن فرصة عمل أخرى في مكان آخر بحثًا عن بيئة عمل جيدة، ومناسبة تساعده في تحقيق أهدافه، وتلبي له احتياجاته بعيدًا سياسة النقر والنقير. المؤسف أن معظم الإدارات التي تتبع سياسة نقر الدجاج مع موظفيها سرعان ما تتخلى عن منقارها الحديدي حينما تواجه مؤسسات أخرى للمطالبة باسترجاع حقوق المؤسسة الضائعة واحتياجات وحقوق موظفيها المسلوبة لدى تلك الجهات، فتتحول حينها من دجاجة شرسة إلى حمل وديع، بل تصبح دجاجة صقعاء؛ والدجاجة الصقعاء كما قيل هي التي لا تبيض ولا يمكن الاستفادة من لحمها، وتترك لكي تعيش رأفة بحالها، وهذا ما يحدث بالفعل حين يصبح المدير شخصًا خانعًا لا يهش ولا ينش فاقد للسلوك القيادي الذي تبرز ملامحه في الثقة بالنفس، وتقدير الذات والاهتمام بمشاعر، واحتياجات مرؤوسيه، والدفاع عنها بشراسة، فكيف لمؤسساتنا بعد ذلك أن تتطور أو تتقدم إلى الأمام، وتنافس غيرها من المؤسسات الرائدة بمثل هؤلاء المديرين.

لا جدال في أن الكثير من مؤسساتنا مهيأة، ولو بشكل تدريجي للخصخصة، والاعتماد على نفسها في خلق فرص استثمارية كبيرة نظير ما تملكه من إمكانات بشرية مدربة وخبيرة؛ إضافةً لوجود بيئة عمل وبنية تحتية جاهزة لمنافسة مؤسسات القطاع الخاص شريطة أن تتخلص من ممارسات إداراتها الداجنة، التي أعادت تلك المؤسسات إلى نقطة الصفر.
لا شك أن الإدارة بالنقر هي أسلوب تنظيمي فاشل يشير إلى عقليات بليدة ونفسيات مريضة، ليس على أرض الواقع فحسب، بل هي كذلك حتى في لغة المنام وعالم الرؤى والأحلام؛ فهذا ابن سيرين يفسر رؤيا نقر الدجاج في المنام بانها تدل على وجود أفكار مشتتة لدى صاحب الرؤيا، وعلامة على الكسل في القيام بالأعمال والمهام الموكلة إليه، كما تشير هذه الرؤيا إلى كثرة الكلام الساذج مع الآخرين، وأخيرًا يرى ابن سيرين بأن نقر الدجاج في المنام يدل على تقصير صاحب الرؤيا مع من حوله خلال تلك الفترة.

حكمة أعجبتني:
تأكد دومًا أن الأعلى صوتًا هو الأضعف أثرًا؛ فعندما تضع الدجاجة بيضة واحدة يعرف كل الناس أنّ الدجاجة تبيض، بينما تجمع النملة مؤونة شتاء كامل فلا يدري عنها أحد.
—————————————
عضو هيئة التدريب بمعهد الإدارة العامة

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button