هكذا تُولد الحقيقة؛ لتغطي الأفق فتكون كل ما نراه، وكلّ ما تناقلتها الأيدي وصدّرها عقل إلى عقل مسحت تلك العقول عليها، وصنع فيها كل عقل ما يشاء، وكذلك تفعل الأيدي والألسن في كل حقيقة، كان الخبر فيها هو الوسيلة، ولما قيل: “ليس الخبر كالمعاينة” ربما بسبب جرائم الأخبار المتتالية المتعالية؛ فأصبحت أقل درجة من المعاينة، ولن يكون الخبر كالمعاينة أبدًا.
تكون الحقائق بكامل أهليتها وقوتها مالم تُنقل، ومتى انتقلت فقدت بعضًا منها، وكل ما زاد النقل زاد الضعف، حتى تأتي وقد خرجت من الحقيقة تمامًا.
في مجمع الحقيقة لدى الفيلسوف الفرنسي “لالاند” أن الحقيقة هي الواقع، وبالتالي ومن منطلق هذا التفسير قد تنحجب الحقيقة إذا افترقت عن الواقع، وليس في الخبر من الواقع إلا ما وافقها، وبالتالي خرجت من ارتباط الاسم إلى ارتباط الموافقة، وانتهت النسبية تمامًا؛ لتمثل ما تقارب مع الواقع فقط.
يقول الشريف الرضي:
وهم نقلوا عنّي الذي لم أَفُه به * وما آفَةُ الأَخبار إلا رُواتُها
وقد جلّا لنا ضعف الحق وافته وهوانه وقلة حيلته بمجرد دخوله في باب النقل والتواتر، بل وجعلها حصرًا فيه وبه ومنه
كم ضاعت من حقيقة، وغابت تحت ستار نقل مشؤوم، ويكفينا ذلك الزخم المنقول عن النبي – صلى الله عليه وسلم- ولن أحدثكم عن الموضوع المكذوب، بل عن درجات أعلى في سلم الصحة والثبوت، وكيف استطالت فيه يد التأويل، وتحجيم المعنى الكبير بذلك العقل الصغير، ولك القياس فيما سواه..
ليس بالضرورة أن تفتقد الحقيقة مؤامرةً، بل تكون في أحايين كثيرة بسبب ضعف قالب النقل، وقصر استيعاب المنقول، وهذا ما تدندن الفلسفة كثيرًا حوله.
حين جعل ابن رشد التاريخ بين ظاهر وباطن، وجعل الأحداث والوقائع ليست سوى ظاهر للتاريخ، وأما التحليل والدراسة والبحث والغوص في تلك الأعماق أو ما سماه بباطن التاريخ طريقًا أهم من تلك الوقائع المجردة؛ لأن باطنه يقود بالضرورة إلى فهم ظاهره، وبالتالي نعطي أنفسنا، ولو من طرف خفي أداة حكم، وعين بصيرة في استرشاد الحقيقة في ذلك التدفق الكريم، وهذا بلا شك يقلص سلطة تلك الآفة (آفة النقل الغالط) في ذلك الموروث.
ولن تنتهي أزمة شروع الباطل في الحق المنقول، ولكن قد نوهنها بنقطة القبول المشروط لكل حقيقة قادمة في طيات الخبر، ونجعل البحث والتدقيق شرطة النقل وحامي العقول من أي خبر، وإن نقله الكثير، وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك.
ختامًا…..
تحرّ فيما قد نُقِلْ…… ولا تقلْ حقٌ نزلْ
ما كان نقلًا خبرًا……ليس كما رأي المقلْ