المتابع للسياسة الأمريكية يجد أن هناك ازدواجية في تعاملها مع الأحداث العالمية، وتجلّت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي حين أصبحت هي القطب الأوحد عالميًا؛ فهي تتخذ المبادئ الأخلاقية، والإنسانية كغطاء ووسيلة؛ لتحقيق أهدافها ومصالحها فترفعها عاليًا حينًا، وتطنطن حولها، وتُطالب بمراعاتها؛ وكأنها وصية على العالم كله وتنسفها أحيانًا كثيرة، وتتغنى بالمبادئ، والمثل، وتعمل عكسها تمامًا وفكرها السياسي يعتمد الازدواج والتناقض، ولا فرق في ذلك بين الأحزاب السياسية والطبقة المثقفة كلها فمبدأ ميكافيلي أساس ومنهج؛ فهي تعمل على تحقيق أهدافها بأي وسيلة مشروعة كانت أو غير مشروعة.
وقضية جمال خاشقجي -رحمه الله- التي أثارها تقرير الاستخبارات الأمريكية CIA الأخير قضية سعودية صرفة 100٪ فالمواطن المجني عليه سعودي، والأرض التي وقعت عليها الجريمة سعودية -القنصليات والسفارات لأي دولة بالعالم تعتبر جزءًا من تراب تلك الدولة – ومرتكبي الجريمة سعوديين وتصدى القضاء السعودي لها وحكم فيها وفقًا للاختصاص، وصدرت الأحكام وفقًا للشريعة الإسلامية، وتم درء حكم القصاص عن الجناة الذين ثبتت الجريمة بحقهم لتنازل أولياء الدم أبناء وورثة المرحوم عن القصاص – ولو لم يتنازل أولياء الدم لتم القصاص، وإعدام مرتكبي الجريمة – وبالتالي فالموضوع أغلق نهائيًا.
إذًا لماذا يُثار بين فترة وأخرى؟ وهل هي الجريمة الوحيدة في العالم التي أقضت ضمير العالم الحر؟ لا طبعًا؛ فهناك جرائم، وقتل، وتشريد، وتهجير، وتطهير عرقي وديني وعنصري وأمريكا أول دولة أياديها ملطخة بالدماء والجريمة المتعمدة مع سبق الإصرار، ومن الأمثلة القديمة التي لا يمكن مسحها من التاريخ الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي للهنود الحمر ثم معتقل غوانتانامو؛ مرورًا بالعنصرية القائمة ضد السود، وفضيحة سجن أبوغريب في العراق، وقبله قتل الرئس الأمريكي جون كنيدي الذي لم تخرج الاستخبارات الأمريكية تقريرًا عنه، رغم أن الحادثة تحت نظرهم (فكيف تخرج تقريرًا عن مقتل خاشقجي، وهو في قنصلية سعودية في قارة أخرى) إذًا لماذا جمال خاشقجي؛ لأن الهدف هو المملكة العربية السعودية قلب العالم الإسلامي، وقلعة السّنة، ومهبط الوحي، وهذا يتوافق مع فكرة تقسيم العالم العربي والإسلامي التي يُنادي بها بعض المستشرقين والمفكرين الغربيين، ولماذا الأمير محمد بن سلمان؟ لأنه يُمثل رمزًا وقائدًا لهذه البلاد؛ فكان الهدف هو توجيه السهام للرأس ليسهل القضاء على الجسد فضلًا عمّا قام ويقوم به هذا القائد من أعمال للارتقاء بهذا البلاد كذلك من الأهداف المرحلية للقضاء على هذه البلاد الطاهرة هو إيجاد شرخ بين القيادة والشعب، ولكنهم والحمد لله في كل مرة يزداد الهجوم، يزداد التفاف الشعب السعودي مع قيادته، وينبرئون في الدفاع، والذود عن وطنهم.
وأمريكا في علاقتها مع المملكة العربية السعودية تعمل على معايير مزدوجة واضطراب واضح في هذه العلاقة؛ فحينًا تقول إنها دولة صديقة للسعودية، وترتبط معها بعلاقات واتفاقيات، وأن السعودية دولة محورية مهمة لاستقرار الشرق الأوسط، وأحيانًا تُثير الزوابع والأقاويل ضد المملكة، وتتعامل معها بسلوك عدائي يختلف عمّا تتعامل به مع غيرها من الدول، ومن تناقض الأدوار في الإدارة الأمريكية الجديدة أنه في حين يقوم الرئيس الأمريكي بايدن بالاتصال بخادم الحرمين الشريفين كأول رئيس دولة عربية يتم الاتصال به يتم نشر تقرير الاستخبارات المهترئ الذي يحاول إلصاق الجريمة بالأمير محمد بن سلمان ثم يأتي البيت الأبيض؛ ليصرح بأهمية العلاقات مع السعودية، وتأتي وزارة الخارجية بتصريح آخر، وهكذا مما يُوحي بأنك أمام إدارة متناقضة.
إذًا ما الهدف من نشر تقرير الاستخبارات الآن رغم سخف محتواه الهدف سياسيًا للإدارة الأمريكية، وأجندات تعمل عليها منها الواضح، ومنها غير ذلك، وبالتأكيد كل هذا غير خفي على الحكومة السعودية المتمرسة في التعامل مع الحكومات الغربية، والشرقية، وأجنداتها، وتحليل الأحداث العالمية.
في الختام هل أمريكا دولة صديقة أم عدو وكيف نتعامل معها ؟ أمريكا الدولة الأولى بالعالم؛ فيجب التعامل مع هذا الواقع بشيء من الحذر والمداراة، وتسديد الإجراءات والأعمال، وفي المقابل البناء الذاتي، وتنويع مصادر الدعم العالمي، والتأييد والحمد لله أن ذلك لم يكن غائبًا عن قيادتنا الرشيدة بخبرة وحنكة خادم الحرمين الشريفين وفطنة سمو ولي العهد -حفظهما الله-، وتعي كل ذلك وقادرة على التعامل مع كل هذه التناقضات بحكمة ودراية فسياسة المملكة تبنى على التحليل المتاني، والدراسة العميقة، وليس ردات أفعال أو عواطف فلدينا مشروع نهضوي يجب الذود عنه، ونملك الكثير من المقومات التي نجابه بها القوى العالمية، ونرتقي فوق كل المعوقات.