د. عبدالله علي النهدي

كان ديكًا فهوى..

يروى أن رجلًا اشترى ديكًا، وكان ذلك الديك كعادة الديكة يصيح بكل شموخ عند مطلع كل صباح، فكان صاحبه ينزعج من صياحه؛ فقال للديك: لا تصيح عند الفجر بعد هذا اليوم وإلا سأنتف ريشك. خاف الديك وقال في نفسه: (يا روح ما بعدك روح)، وأقنع نفسه بأن لا بأس من أن يغير في عاداته؛ لأن المصلحة تقتضي أن يتنازل عن الصياح حفاظًا على حياته، كما قال في نفسه؛ هناك ديكة غيري تؤدي هذه المهمة فلست أنا الديك الوحيد في الحي، وبالفعل توقف الديك عن الصياح. ما هي إلا أيام قليلة حتى جاءه الرجل مرة أخرى وقال له: إن لم تقاقِ مثل الدجاجة فإنني سأنتف ريشك؛ فقال الديك لنفسه: كيف لي أن أفعل ذلك فالديك يصيح والدجاجة تقاقي، لكنه سرعان ما عاد إلى صوابه وقال: لماذا أحمل نفسي فوق طاقتي والضرورات تبيح المحظورات، ومثل ما يقول الأخوة أهل مصر؛ العمر مش بعزأة (بعزقة)، فتنازل الديك عن خصوصيته وأصبح يقاقي مثله مثل الدجاجة، إلا أنا الرجل لم يتركه في حاله إذ جاءه بعد أيام قائلًا: إن لم تبض مثل الدجاجة فسأذبحك غدًا، قال الديك: ولكن يا سيدي! تعلم أن الديك لا يبيض، فقال الرجل: من استطاع أن يقاقي مثل الدجاجة فهو قادر على أن يبيض مثلها. عندها بكى الديك، وندم ندمًا شديدًا على مسايرة الرجل، وتنفيذ طلباته منذ البداية، وقال في نفسه: يا ليتني مت وأنا أصيح!! نعم لقد حزن على نفسه أن يموت بعد كل هذه التنازلات، وهو يقاقي مثل الدجاجة، وتمنى أن يموت، وهو يصيح كغيره من الديكة، أما الآن ماذا سيقول عنه الآخرون بعد الحالة التي وصل إليها؟!

هذه القصة لم نوردها هنا كدعوة للتزمت وإغلاق أبواب التواصل والحوار بين الناس، ولا للحث على إظهار العنتريات، واستعراض العضلات بين الناس، فكل طرفين تربطهما علاقة شراكة في أي مجال من مجالات الحياة؛ فإن كل منهما مكلف أن يؤدي ما عليه من التزامات قبل أن يُطالب بما له من حقوق. فعلى سبيل المثال ليس من صالح الأسرة والمجتمع أن يتمرد أحد الزوجين على شريك حياته؛ بل المطلوب مداراة كل منهما للآخر، والتنازل عن بعض الأمور مطلوب كي تبحر سفينة الحياة الزوجية بسلام، وترسو على شاطئ المحبة باستقرار وأمان، لكن هذه التنازلات يجب أن تكون من كلا الطرفين، وليس من طرف واحد فقط، كما أنه ليس من الضروري أن يكون التنازل مقايضة وفي نفس التوقيت؛ فلكل مقام مقال، كما ولابد أن يكون ما يفعله أيًا من الزوجين محل تقدير واحترام من قبل شريك حياته، وبشرط أن تكون هذه التنازلات في غير الثوابت، أما المثالية والمبالغة في تقديم التنازلات من أحدهم للآخر دون تقدير سوف تكون عواقبها وخيمة على من يقدّم هذه التنازلات.
كما أنه لن يكون مقبولًا استهتار موظف وتراخيه في عمله، وعدم احترامه لمديره أو زملائه أو عملائه، بل مطلوب من الموظف الجدية، وأن يقدم بعض التنازلات في عمله لتستمر عجلة العمل والإنتاجية، ولكن في المقابل يجب أن تقدر له الإدارة هذه التنازلات وألا تعتبرها نقطة ضعف لدى الموظف، كما يجب ألا تستغل الإدارة تضحيته؛ فتصبح نتائج هذه التنازلات عكسية عليه فتجرده من حقوقه ومكتسباته المادية والمعنوية، فإذا قام الموظف بأداء ما عليه من واجبات دون خلل أو تقصير فمن حقه المطالبة بحقوقه، فإذا تجاهله مديره؛ يمكنه الرفع بها للمسؤولين الأعلى من مديره وذلك بالتدرج ودون أي تجاوزات، فإذا لم تكن هناك نتيجة لمطالباته فلم ينتهِ الأمر بعد؛ فقد أوجدت الدولة -وفقها الله- جهات قضائية مختصة من حقه طرق أبوابها والمطالبة بحقوقه دون خوف أو تردد؛ بل أن ولاة الأمر -حفظهم الله- شرعوا أبواب مكاتبهم ومجالسهم لسماع مظالم الناس، ومعرفة احتياجاتهم منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- وصولًا إلى عهد ملك الحزم والعزم سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وحفظ سمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان عرّاب الرؤية ورائد التنمية الحديثة، والذي حمل راية مكافحة الفساد؛ لتطهير كافة المؤسسات من هذه الآفة اللعينة. والقياس على أهمية التنازلات وخطورتها في ذات الوقت مستمر في كافة علاقات الشراكة بين الموظف والعميل، وبين الطالب والمعلم، أو الطبيب والمريض، وبين البائع والمشتري، وحتى علاقة الجار مع جاره.

لذا فالعبرة من قصة الديك هي أن يعرف كل شخص أن سلسلة التنازلات عن المبادئ والقيم والطموحات والأهداف والحقوق والخصوصيات دون وعي، تبدأ هكذا بالشيء اليسير، وتنتهي بالتنازل عن القيم والثوابت، وثق دائمًا أن من يراك تقف على أرض رخوة، ويرى فيك الخوف وقابلية التنازل والخنوع؛ فإن أطماعه ستزداد بل إن تنازلاتك ستفتح شهيته المسعورة، ولن يشبع نهمه ولا يوقف جشعه إلا أن يأتي على كل ما تبقى لديك من بقايا شخصيتك، لذا فأنت مخير منذ البداية؛ إما أن تعرف ما عليك وما هو لك، فتؤدي الأول بكفاءة وتفانٍ، وتطالب بالثاني بشجاعة وإقدام، وإلا لن يختلف مصيرك عن مصير الديك المنتوف، وعندها ما عليك سوى تجهيز طبق البيض لتتمكن من تنفيذ الطلب الأخير!!.

خاتمة:
يقول المثل الروسي: إذا كنت ديكًا فارفع عقيرتك بالصياح، أما إذا كنت دجاجة فضع بيضتك واصمت.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button