د. عبدالله علي النهدي

إبداع شيخ..وخيبة مدير

يعتبر علم الإدارة أحد أهم العلوم الإنسانية الحديثة التي ظهرت في بداية القرن التاسع عشر، لكن الإدارة كنشاط ومهنة وجدت منذ قديم الأزل فقد ظهرت تزامنًا مع ظهور الجماعات والقبائل والعشائر ثم ازدادت أهميتها مع نشأة المؤسسات والدول؛ ولذلك فإن من الطبيعي أن من عمل على تأسيس هذا العلم هم أشخاص يحملون تخصصات علمية أخرى؛ حيث لم تكن الإدارة معروفة كعلم يدرس، ولم يكن هناك مدارس أو معاهد وكليات لتدريس علم الإدارة. وكان ممن أسهموا في نشأته المهندس الأمريكي فردريك تايلور ومهندس المناجم الفرنسي هنري فايول كما قدّم عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر نظريته في البيروقراطية، كما أسهم في هذا المجال عدد كبير من علماء النفس والاجتماع وغيرهم من رواد العلوم الإنسانية والطبيعية. لكن الغريب أنه حتى بعد تطور علم الإدارة، وظهور مدارس، وكليات تقوم بتدريسه إلا أن الإسهامات الأكبر في حقل الإدارة مازالت تأتي من خارجه؛ ومن ذلك أن الكثير من روّاد إدارة الجودة، وعلى رأسهم من يسمى بـ (أبو الجودة) إدوارد ديمينج كان مختصًا في الرياضيات والفيزياء، وكذلك جوزيف جوران، وفيليب كروسبي وايشيكاوا وآخرين، فقد كان منهم المهندس وعالم الرياضيات والمختص في الإحصاء وغيرها من العلوم. غير أن الأكثر غرابة عندما نتجه لواقع الممارسة الإدارية على قمة الهرم التنظيمي في كثير من مؤسسات القطاعين العام والخاص في مختلف دول العالم؛ نجد أن أغلب من يتولى قيادة تلك المؤسسات الناجحة هم ممن يحملون مؤهلات جامعية لا علاقة لها بتخصص الإدارة، ولكن أولئك القادة يمتلكون من المهارات والقدرات ما يفوق قدرات نظرائهم المختصين في العلوم الإدارية.

وإن كنا لا ننكر نجاح تجارب بعضًا من أصحاب الاختصاص الإداري في قيادة المؤسسات التي تولوا إدارتها، إلا أننا في ذات الوقت لا نستطيع أن نتجاهل فشل عدد كبير ممن درسوا الإدارة، وحصلوا على أعلى الشهادات العلمية في هذا الحقل، ولكن عندما حان وقت الجد والتطبيق على أرض الواقع فشلوا فشلًا ذريعًا في إدارة مؤسساتهم؛ كونهم مارسوا التنظير واستفردوا بالرأي، واستقلوا بصنع القرار، وهمشوا أهم الموارد لديهم والمتمثلة في العنصر البشري، واعتبروا الموظف العنصر الأقل أهميةً وتأثيرًا في تحقيق أهداف المؤسسة، كما أن لدى هذه النوعية من المديرين اعتقادًا راسخًا بأنه يستطيع النجاح بمفرده، وأن يغرّد خارج السرب رغم ضعف قدراته، وقلة خبراته، وخيبته الكبيرة.

نماذج سعودية كثيرة ولله الحمد ممن برزوا في قيادة مؤسساتهم إلى النجاح دون أن يكونوا متخصصين في علم الإدارة، ولكن شدني في هذا الجانب نموذجان للقيادة الناجحة في الفترة الحالية؛ كونهما مازالا على رأس العمل، ويحققان نجاحات متوالية إضافة إلى أنهما يحملان تخصصًا علميًّا بعيدًا عن حقل الإدارة، وأرى أن من الواجب علينا الإشارة والإشادة بجهودهما. فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، وما يقوم به من أعمال ونشاطات وتبنيه لعدد من المبادرات وبرامج التحفيز التي تنهض بالعمل في رئاسة الحرمين الشريفين وبصورة مبهرة، رغم أن تخصص فضيلته الأساسي في مجال علوم الشريعة، لكن مع ذلك لم يتوقف إبداع الشيخ السديس عند إمامة الحرم المكي الشريف، والتي يستمتع بها أطياف من شعوب العالم؛ وبخاصة في شهر رمضان المبارك.

أما النموذج الثاني للقيادة السعودية الناجحة فهو معالي وزير الصحة الدكتور توفيق الربيعة الذي يحمل الدكتوراة في علوم الحاسب الآلي، وما يقوم به معاليه من جهود ونجاحات متتالية في وزارة الصحة؛ وبخاصة في مواجهة الأزمة الحالية (جائحة كورونا)، وقبل ذلك نجاح جهوده في وزارة التجارة، مستغلًا دعم القيادة الرشيدة له وثقتها في قدراته، وبالفعل فقد كان أهلاً للثقة ولم يخب الظن فيه، هذان النموذجان أوردتهما ليس كون الدكتور الربيعة والشيخ السديس غير مختصين في علم الإدارة فحسب، بل ولكبر حجم العمل وحساسيته في كل من وزارة الصحة ورئاسة الحرمين الشريفين، في الوقت الذي نجد أشخاصًا يفشلون في قيادة مؤسسات أصغر حجمًا؛ إضافة إلى أن من يُديرها هم ممن يحملون أعلى الشهادات الجامعية في حقل الإدارة، كما أن العمل في بعض هذه المؤسسات الصغيرة لا يوازي حجم العمل في إدارة مستشفى حكومي أو مركز صحي؛ بل ربما أن ضغط العمل في إدارة تلك المؤسسات الصغيرة لا يوازي ضغط العمل الذي يواجهه منسوبو إحدى بوابات الحرم الشريف.

كل الشكر والتقدير لمعاليهما، ونتمنى أن نرى نماذج أخرى أكثر تألقًا على قمة الهرم التنظيمي لكافة المؤسسات؛ طالما أن دعم القيادة الرشيدة متاح ومستمر لجميع المؤسسات الحكومية وحتى الخاصة. والأمل في كل مسؤول يتبوأ إدارة مؤسسة معينة أو حتى رئاسة قسم أو وحدة صغيرة أن يحتذي بمثل هذه النماذج الناجحة، وعليه أن يعرف أن التجديد والتطوير في العمل لا يستلزم إغفال جهود من سبقوه، ولا تجاهل آراء من يعايشوه، وليتأكد أن من الطبيعي عندما يركن إلى مشورة القلة الذين جمعهم حوله فقط، فإنهم سيخدعونه ببورباقندا النجاح الوهمي التي يصوروها له؛ فتصعد به إلى قمة هرم النرجسية، ولن يعود إلى صوابه إلا بعد أن يودع كرسيه في لحظة يعض عندها أصابع الندم، ويردد بحسرة “ليتني خليتها على مبنى الشايب”.
حكمة:
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي يرحمه الله: ” لا تقلق من تدابير البشر فأقصى ما يستطيعون فعله معك هو تنفيذ إرادة الله”.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button