سلسلة مقالات عن صناعة الطائرات
عزيزي القارئ إكمالًا لما سبق؛ فسنتكلم الآن عن حوكمة صناعة الطائرات:
مع التنويه إلى أن ما ستقرأه في هذه المقالة ليس كلامًا نظريًا للاستهلاك المحلي فقط، ولكن الحقيقة هي أنه برنامج دقيق وعملي وقوي جدًّا وصعب، ولكنه قابل للتطبيق بل وواجب التطبيق في مصانع الطائرات، وقد تم تطبيقه عمليًا في أعتى المشاريع الدقيقة والصعبة ذات الجودة العالية والحساسة جدًّا، وبعضها كان على وشك التعثر فأثبتت جدواها وفعاليتها بنجاح منقطع النظير، وانطلقت تلك المشاريع مرة أخرى بعد أن تخطت كافة العقبات بكل نجاح واقتدار.
التعريف: الحَوْكَمة أو الحكامة أو الحاكمية هي تدعيم مراقبة نشاط المنظمّة ومتابعة مستوى أداء القائمين عليها، وهي مصطلح جديد في اللغة العربية وُضِع في مقابل اللفظ الإنجليزي (governance) أو الفرنسي (gouvernance) والحوكمة مصطلح على وزن فوعلة على سياق الحوسبة والعولمة.
الشرح: إن الحوكمة هي النشاط الذي تقوم به الإدارة فيما يتعلق بالقرارات التي تحدد التوقعات أو منح السلطة أو التحقق من الأداء، وهي تتألف إمّا من عمليات منفصلة أو من جزء محدد من عمليات الإدارة أو القيادة.
وفي بعض الأحيان هي مجموعة من الناس تُشكل طبقة عليا لإدارة هذه العمليات والنظم.
وهذا هو التعريف الشامل الذي ستستند عليه في دراستنا لحوكمة الصناعة وقيادة التصنيع.
وللمعلومية فقد اختلف تعريف الحوكمة عالميًا بناءً على منطلق التعريف، فعلى سبيل المثال تعريف حوكمة الشركات عالميًا بناءً على ثلاث منطلقات وخلاصتها: تعريف مؤسسة التمويل الدولية للحوكمة يرتكز على حقوق المساهمين والمشاركين في رأس المال، وتعريف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الدولية للحوكمة كان يتطرق إلى العلاقة بين أصحاب القرار، والإدارة والمساهمين، وأصحاب رأس المال.
بينما كان تعريف هيئة سوق المال السعودي هو الأقرب لما ذكرناه أعلاه بشأن العلاقة والمصالح؛ لتحقيق العدالة، والشفافية، والتنافسية في السوق وبيئة الأعمال.
ومن المنطلق التخصصي فهنالك تعريفات مختلفة أيضًا، فالتعريف المالي يُشير إلى أنها العناية بالوسائل والأدوات التي تحقق أعلى عائد مالي للجهة، وهو مختلف عن التعريف الاقتصادي، والذي يُشير إلى أن الحوكمة هي الإدارة الأكفأ التي تستخدم أدوات التحفيز الملائمة للمنظمة؛ لتمكين المديرين من تحقيق عائد تنافسي وفق الاستثمار، وهو تعريف مختلف عن التعريف المحاسبي، والذي يحدد الحوكمة في وجود نظام محاسبي يمكن من خلاله إحكام الرقابة المالية على أعمال المنظمة ومراقبة أدائه، وتصحيح أعمالها، وهو كذلك تعريف مختلف عن التعريف القانوني للحوكمة، والذي يؤكد بأنه مجموعة من النظم والقوانين والقرارات التي تضبط العمل في المنظمة.
ولو رجعنا إلى تعريفنا السابق لحوكمة التصنيع لوجدنا بأنه شملها وغطاها كلها، فالمصنع هو النشاط الوحيد الذي يشمل كل ما ذكر، ففيه تجد المالية، والاقتصاد، والمحاسبة، والقانون، والتقنية، والموارد البشرية، والتخطيط، والهندسة، والميكانيكا، والإنتاج، وسلاسل الإمداد، وفوقهم جميعًا تجد إدارة عليا وأصحاب القرار، وربما مساهمين ومجلس إدارة؛ لذلك تجد بأن حوكمة المصانع تعد من أصعب ما صنف، وطبق على مستوى الحوكمات، وهذا هو سبب كتابتنا للمقال.
عودة إلى منطلقاتنا ومستهدفاتنا؛ فإن هنالك تزامن وتواؤم طردي مع الفارق في الكم والكيف ما بين مصانع الطائرات وكبار مشغلي الطائرات فالمصنع ينتج منتجات مصنوعة ملموسة تسلم يدويًّا للزبائن والعملاء؛ لتلبي احتياجاتهم بينما كبار مشغلي الطائرات ينتجون خدمات تلبي، وترضي رغبات العملاء، ومقالنا هذا لا يستهدف صغار مشغلي الطائرات قدر كبارها.
إن الإدارة الديناميكية لمصانع الطائرات وكبار مشغلي الطائرات – وهو بيت القصيد هنا – تجمع بين مسارين هما:
أ- مسار الإدارة التقليدية المرتبط بجداول العمل، ومراقبة الحضور، وأداء الموظفين، وكمية الإنتاج.
ب- ومسار الإدارة الحديثة المعني بترشيد التكاليف، ومراقبة جميع المشكلات؛ لرفع الأداء والإنتاجية، وإيقاف الهدر، وتسريع جداول الإنتاجية بناءً على مؤشرات الأداء، وبرامج الجودة، والتحفيز، وتحسين بيئة العمل مع التنافسية العالمية وتراخيصها.
إن الحوكمة لا تعنى بالضرورة إزالة الإدارة القديمة قدر تطويرها وتعديلها وصقلها وإثرائها، فالإدارة القديمة تعتمد عادةً على الشدة المرتبطة بالتهديد والوعيد والعقاب؛ فالبعض يضع العصا قبل الجزرة، والبعض يعكس الآية فيرخي ويترك الحبل على الغارب دون حسيب أو رقيب فهم ما بين إفراط وتفريط، وقد أثبتت التجارب الحية فشل ذلك النمط القديم من الإدارة إذا تم تطبيقه على الخدمات والمصانع الحديثة متى ما أرادت مواكبة تحديات العالم الخارجي، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ إن أفضل وسيلة لمحاسبة للموظف المقصر على تقصيره في الإدارة القديمة هو الإنذار والخصم من راتبه وتهديده حتى يعتدل، ولكن الحوكمة الحديثة تستدعي في إحدى أدواتها مواجهة الموظف استباقيًّا قبيل وقوع الأخطاء الجسيمة لكي يرى بأم عينيه أخطاءه ومشاكله التي مازالت صغيرة كيف ستزداد وتكبر في تقارير ذات مؤشرات ملونة تظهر له مستواه دون أي شروحات فلسفية قابلة للتأويل، فيرى بوضوح تأثير غيابه وأخطائه، وتقصيره على العمل، وتأثير ذلك على إنتاجية المصنع أو المنظمة فيشعر بأهميته وقيمته ودوره في جداول الإنتاج، وبالتالي يشعر بمكانته في المصنع، ومن ثم إقناعه بالتغيير؛ فإن لم يستطع ذاتيًّا فهو ليس سيئًا، ولكنه بحاجة للمساعده للوصول إلى أسباب تلك المشكلات لعلاجها؛ وذلك ما سيرفع من ولائه للشركة، ويزيد من إنتاجيته.
هل تعلم بأن الأبحاث العالمية المنتشرة تشير إلى أن هناك هدر قد يصل من 75% إلى 95% من الوقت والتكاليف والموارد؛ وذلك لتجهيز منتجات إضافية لا يرغب فيها العملاء أو لا تفيدهم أو القيام بإجراءات لا داعي لها ما قد تؤخر الإنتاجية الحقيقية المطلوبة من المنظومة إذ لا توجد حاجة حقيقية لتلك المنتجات الإضافية، هل تعلم لماذا؟ وكيف تزيل الهدر؟ هنا تكمن الحاجة إلى الحوكمة والخبرات التي ستساعد مصنعك أو منظمتك على معرفة السبب؛ فإذا عرف السبب بطل العجب.
ولشرح ذلك سأختم مقالتي هذه بمثال بسيط من حياتنا اليومية يشرح وجهة نظري في الموضوع ألا وهو (غلاية الماء) Water Cuttler فمن أراد صنع كوبًا من القهوة أو الشاي عليه أن يغلي الماء في غلاية الماء ثم يصبه في الكوب، ويضع عليه ما يريد من شاي أو قهوة أو سكر وخلافه، ويستمتع بمشروبه، فأين المشكلة؟
المشكلة أن الكثير منّا لا يلقي بالًا لكمية الماء الفاتر التي صبها في الغلاية إن كانت أكثر مما يحتاجه لملء كوبه واحد فقط بكثير أم بقليل، ولو كان كثيرًا فسيسلي نفسه بأكذوبة أن غيره ربما سيحتاج إلى الماء الساخن من بعده، وإليكم ما سيحصل من أجل كوب واحد من القهوة فقط إذا كانت كمية الماء كبيرة:
1- إن كمية تبخر الماء أثناء الغليان عالية جدًّا، وفي حالتنا هذه فإن كمية الماء المتبخر ستكون أكثر من المفترض؛ لأن كمية الماء المغلي المتبقية في الغلاية بعد صب الماء في الكوب كبيرة، وستستمر في التبخر والتناقص حتى تبرد أو تتلاشى.
2- إن كمية الكهرباء المستهلكة تزداد بطول مدة الغليان فالكمية الكبيرة تحتاج إلى فترة أطول كي تغلي.
3- الزمن المهدر للشخص بانتظار غليان الماء يزداد مع ازدياد كمية الماء.
وهكذا نجد بأن غلي كمية مفرطة من الماء أدت إلى ثلاث خسائر لا داعي لها: فقدان كمية كبيرة من الماء المهدر المبخر في الهواء، استهلاك كمية كبيرة من الكهرباء، فترة الانتظار أضحت أطول مما ينبغي. هل كنت تتوقع هذ الكم من الخسائر لصنع كوب واحد من القهوة فقط؟
فلو قام صانع القهوة بملء الغلاية بنفس كمية الماء التي يحتاجها مع زيادة بسيطة بداعي التبخر لوجد أن كمية الماء المستهلكة واقعية وحقيقية، ولا يوجد أي هدر عالٍ في الماء أو الكهرباء أو الوقت، ولك أن تتخيل لو تكرر ذلك الهدر في العمل لصنع مائة كوب من القهوة على مدار اليوم للموظفين، لذلك لا أنصح باستخدام الغلايات الكبيرة التي تستمر في الغليان دون توقف؛ لأنها تبخر كميات كبيرة من الماء، وتستهلك كميات كبيرة من الكهرباء سوى في البوفيهات والكوفي شوبز؛ وذلك لأنها ذات استهلاك عالٍ جدًّا، وبالتالي فلا مجال هنا للهدر.
هذه هي الحوكمة، وهكذا يجب أن تُدار الأمور، وهكذا يجب أن تكون نظرة إدارة المصنع فلا تنقص الماء، ولا تزيده.
في مقالتنا القادمة -إن شاء الله تعالى- سنتكلم عن جميع أدوات الحوكمة مع التنويه إلى أن كل هذه المقالات مقتبسة من موسوعة لنا يتم التجهيز لطباعتها تتحدث عن أدق تفاصيل، وأسرار صناعة الطائرات.
ماشاء الله مقال شيق وموضوع هادف
تبارك اارحمن
فعلا موضزت مهم وحاجة التطوبر إلى الوصول للهدف المنشود ليتم وضع كل جهد ونكلفة في محلها الصحيح ..
وفقك الله ووفق الجهات المعنية للانتباه إلى ذلك والوصول إلى الهدف المنشود ..
ما شاء الله كلام في الصميم وكلام مليان
الله يحفظك ويكثر من امثالك
ماشاء الله مهندس إلياس، مقالات قيمه
تمنياتي لكم بالتوفيق والنجاح الدائم
ابدعت ابو ابراهيم وتسلم اناملك
ما شاء الله تبارك الله موضوع جميل وشيق .
دائما مبدع الله يعطيك العافيه تمنياتي لك بدوام التقدم .