يقول أحدهم: لم أعثر على فأسي، فاشتبهتُ بأن جاري قد سرقه مني، فبدأتُ أراقبه عن كثب! فكانت مشيته مشية سارق فأس، وكلامه كلام سارق فأس! حتى حركاته كانت جميعها توحي ألا أحد غيره قد سرقَ فأسي! أمضيتُ تلك الليلة حزينًا، ولم أعرف كيف أنام فقد كنت أفكر بأي طريقة أواجه جاري؟! ولكني في الصباح الباكر عثرتُ على فأسي، حيث كان ابني الصغير قد أخفاه وسط كومة من القش! نظرتُ بعدها إلى جاري، فلم أجد فيه شيئًا يشبه سارق الفأس، ولم يظهر لي شيء لا في مشيته ولا في هيأته ولا في سلوكه يوحي بأنه سارق الفأس! فأدركتُ حينها بأني أنا السارق الحقيقي، نعم لقد سرقتُ من جاري أمانته وذمته وبراءته، وعندما قضيت تلك الليلة في حزنٍ وأرق، فقد أضعت ليلةً من حياتي! قضيتها ساهرًا أفكِّر كيف أواجه جاري بتهمةً هو بريء منها براءة الذئب من دم يوسف!
إن ارتفاع مستوى الإدراك لدى الإنسان يُعد ظاهرة غير صحية بل هو مشكلة خطيرة تحتاج إلى علاج عاجل كي يخرج صاحبها من دائرة القلق والشك التي تحيط به، وقبل أن يدخل في مأساة تلازمه على الدوام فتحول حياته إلى جحيم. يقول الفيلسوف الروسي دوستو يفسكي: أقسم لكم أيها السادة أنّ شدة الإدراك مرض حقيقي خطير! وإنّ إدراكًا عاديًا يعد كافيًا من أجل سعادة الإنسان. بينما يقول رائد الكتابة الكابوسية الألماني فرانس كافكا: إذا كان هناك ما هو أشد خطورة من الإسراف في المخدرات، فمن دون شك هو الإفراط في الوعي وإدراك الأشياء.
والإدراك هو عملية ذهنية تساعدنا في تفسير وفهم ما يدور حولنا، وربما يكون ذلك التفسير بصورة مختلفة تمامًا عن الواقع ثم نتصرف بناء على ذلك الفهم الخاطئ. ولذا فإن الإفراط في الإدراك والخوض في الغيبيات والتفاصيل الدقيقة داخل وخارج الأطر المعقولة، والبحث المتعمق في طبيعة الشيء واللاشيء، وفي المباح والمحظور، وفي الواقع والخيال، كل ذلك يقود صاحبه إلى طريق الهلاك، والمطلوب منا المحافظة على توازن العقل من خلال التوازن النفسي الذي يتطلب كثيرًا من التغافل وشيئًا من التغابي كي نضمن الاستمرارية في السيطرة على ملكة الوعي والإدراك. ولذا يُقال إن الأغبياء والمتغابين هم أكثر الناس سعادة في حياتهم، أما الجادون حد التطرف فتتقاذفهم أمواج أفكارهم نحو الغرق في بحر التشتت والضياع.
إن الإفراط في الإدراك هو أسرع طريقة لقتل المشاعر وأخطر سلاح لاغتيال العلاقات بين البشر، فكثيرًا من مشاعر الحب والمودة بين الزوجين، والتي يصعب ولو لمجرد لحظة تصور انخفاضها؛ ولكن عندما تجتاحها رياح الإدراك العاتية الممتزجة بالسوداوية، ينتج عن ذلك حساسية مفرطة وإغراق بالتفاصيل، وإسراف بالشك أمام توافه الأمور قبل عظائمها؛ فتكون النتيجة فقدان للثقة وكراهية وحقد وطلاق وتشريد أطفال، وكم يكون الإفراط في الإدراك بين الأصدقاء هو المشرط الذي تُنحر به مشاعر الود والمحبة فيما بينهم، والأشد خطرًا عندما يتحكم الإدراك السلبي في سلوك متخذ القرار الإداري، فيكون سوء الظن هو القاعدة التي ترتكز عليها العلاقة بين الإدارة والموظفين وبينهم وبين بعضهم، فتغدو بيئة العمل مسرحًا للصراع، ويصبح الداخل للمؤسسة مفقودًا والخارج منها أصبح مولودًا.
حقيقة مؤلمة:
قمة الجهل والتخلف ممزوجة بدرجة عالية من النرجسية عندما تتربع على قمة هرم مؤسسة ما، أو حتى مجردة رئاسة وحدة صغيرة؛ ونحن نعيش في الألفية الثالثة ثم تعتقد أنك أصبحت أعرف الناس وأجدرهم، والأكثر إدراكًا بينهم لما يدور حولك دون الحاجة للأخذ بمشورة، ورأي الآخرين من ذوي الاختصاص، فينتج عن ذلك أفكار هوجاء تصدر عنها قرارات غبية غير مدروسة تعود بالمؤسسة لتعمل بعقلية ما قبل الألفية الأولى، والضحية ومن يدفع الثمن هم من منسوبي تلك المؤسسة والمستفيدين من خدماتها.
آخر الكلام:
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شرًا، وأنت تجد لها في الخير محملاً).