كانت في طريق عودتها الطويل إلى شقتها، متجاوزةً بانغماسها في أحلام اليقظة طول الطريق الذي يتجاوز الساعتين ذهابًا وإيابًا كل يوم.
ليست في عجلة من أمرها لتعاطي نفس الروتين الممل..
لا بأس إن تأخرت هذه المرة لساعة إضافية قبل عودتها إلى شقة وحدتها الرتيبة..
بدت تلك الفكرة مغرية وهي تلمح بقايا الهجرة المهجورة على جانب الطريق..
ماذا لو استكشفت المكان، وحظيت ببعض الصور التاريخية؛ علَّها تعيد الحياة لحسابها الجامد الذي لا يتابعه إلا ما يزيد عن العشرة بقليل..
أليست هي التي ترفض الاحتكاك بالناس والتواصل معهم منذ زمن طويل..!
إذًا، فلتكف عن التذمر من قلة متابعيها، ولترضَ بما اختارته!!
وبخت نفسها سرًّا بلهجة عجوز المنطق؛ كي توقف جدل الشابة في داخلها ومعارضتها المستمرة..
تنهَّدت وهي تركن سيارتها على جانب الطريق الخالي من المارة في هذه الظهيرة..
ترجَّلت من السيارة، وهي تتمطَّى كقطةٍ استيقظت من نومها للتو؛ لتريح عضلات ظهرها المتيبسة من طول القيادة التي لا تزال حديثة عهدٍ بها، ولتشحن طاقتها للسير في هذا الجفاف الذي اجتاح تلك البيوت الطينية فجعلها بهذا الوجوم..
ذلك الجفاف قد أثَّر أيضًا في ملامح النخيل الذي جف معظم سعفه، وأصاب الهزال جذوعها فاستدقَّت، وأثار حفيظة الحشائش التي نمت بعشوائية نهمة قرب البئر المغطى هناك..
اجتاحت الصفرة واليباس بقايا التي كانت يومًا ما مزرعة نخيل عامرة، وما عادت إلا أعجاز نخلٍ مهملة..
وقفت في الممر المؤدي إلى هذا المكان وهي تمشِّطه بحثًا عن حيٍّ يسير على قدمين أو أربع، أو زاحفٍ على بطنه قد لا يرحب بالغرباء، لكن عينيها التي جُهرت بانعكاس شمس ما بعد الظهيرة على هذا “البحص”، وبالكاد رأت بعض العصافير التي كانت تطير بإنهاكٍ بين سعف النخيل، وقد نال العطش من تغريدها مبلغه..
انحازت يمينًا وهي تدلف في السكك الأقل التواءً مقارنة بالبويتات التي عن يسارها، وهي ترهف السمع لصوت احتكاك حذائها بالحصى الذي ملأ الأرض واختلط بقشور الطين الجاف..
لا أحد هنا سواها، وربما ساكني هذا “الهدم” الذين لا تراهم، أو لم ترهم بعد!
مرت من جانب البيت الأول، فالثاني، فالثالث، والوضع كما هو لم يتغير؛ فتشجعت قليلاً، ودلفت في البيت ذا الباب الموارب بحذر، حانيةً رأسها كي لا يُسحق تحت لِبْنة طينٍ تدفنها هنا لأيام قبل أن يفتقدها أحد..
كتمت أنفاسها اللاهثة وهي تصغي إلى الأصوات داخل البيت، فما لبثت أن أدركت أن تلك الأصوات لم تكن إلا صوت لهاثها العطِش من جرَّاء “الأدرينالين” النشط في جسدها المتوجس..
توغلت في البيت الذي يبدو أنه يعود لعائلة كبيرة أو “حَمولة” كما يدرج على لسان أهل نجد تسميتها، وهي تؤكد ظنها حينما رفعت عينيها لأعلى البيت، ورأت ما يبدو أنه “رُوشَن” أحد أبناءها، والحجرات المجاورة له أو ما تبقى منها.. ثم تنبَّهت لنفسها وهي تقف في باحة البيت الرئيسة أو ما كان يسمى “بطن الحَوي” .. هذه الباحة المربعة الواسعة كانت صدر اجتماعات الأسرة، وممر الداخل والخارج، ومجرى أقدام النساء المحنَّاة، وأقدام الصغار الشهباء، وهي تفر إلى الشارع لتلعب، أو تهرب من تكليف، أو من عصا الجدة، أو عقال الأب، أو ربما لأحاديث السَّمر ذات فتوة بعد العشاوين..
ابتسمت للخيالات التي رأتها في هذه الساحة الخالية، لكنها ما لبثت أن كشرت لقطرة الدم التي نزَّت من شفتيها لتذكرها بمدى جفافها وعطشها..
عادت أدراجها وقد امتدت رقعة الظلال أكثر؛ لتخرج من هذا البيت بنفس الحذر الذي خرجت منه، إلا أن قدمها تعثرت عند عتبة الباب المتهالكة؛ فاختل توازنها ووضعت يدها على جدار الطين..
التقطت أنفاسها المتوترة، وبدأت بتحريك قدمها ببطء؛ لتتأكد من عدم اِلتواء كاحلها..
اطمأنت للألم الذي خف تدريجيا، وأكملت سيرها بخطوات بطيئةٍ مستندةً على الجدار نفسه..
توقفت قرب السِّكة الضيقة ما بين بيت “الحمولة” والبيت المجاور وهي تتحسس نتوءات “التِّبن” على سطح الجدار..
تذكرت تلك النتوءات التي ملأت وجهها من آثار حبِّ الشباب العنيف الذي اجتاحه، وذلك الغضب الذي يجعلها تنتقم من تلك البثيرات؛ لتنتزعها كلما سخر من دمامة وجهها أحدهم، لترد عليها تلك البثيرات الصاع بصاعين؛ بالعودة إلى الظهور بعدد أكبر وآثار أعمق.. فتعود هي إلى كآبتها المحبَطة من جديدٍ، حتى أذعنت للقناعة التي غُذِّيَ عقلها به؛ بأنها “قبيحة” ذات وجهٍ “مُحفَّر” كجدار الطين!
تلك الندوب على وجهها تلاشت بعد سنواتٍ مع تلاشي العشرين من عمرها، وتلك العقاقير التي كان تزدردها على مضض، وتلك المستحضرات التي استنزفت مدخراتها المتواضعة في سبيل الحصول على ملمسٍ مصقول، أو على الأقل غير ناتئ..
وبالفعل حصلت على ملمس البشرة الذي تريد، ولم تعد بشرتها “ذات ندوب”، ولكن من يزيل تلك النتوءات البارزة على جدار روحها، وقد تغلغلت في أعماقها كتغلغل نتوءات التبن في جدار الطين؟
نزعت يدها عن الجدار مذعورةً من لسع تلك الفكرة، وهي تنظر حولها مجددا بخوف، وكأنها تتأكد أنها لا تزال وحدها، وليست واقعةً تحت تأثير سحر أحدهم..
ربما هذا المكان هو من يعبث بعقلها!!
ارتعبت من الفكرة، وهرعت إلى سيارتها دون أن تلتفت للوراء، وهي تعزم ألا تلمس جدار طينٍ في حياتها أبدًا!
0