قبل 100 سنة، عزمَ الفيلسوف الأديب أمين الريحاني على زيارة ملوك جزيرة العرب. كانت بلاد الشام حينها تُعاني تغريبةً ثقافية اجتماعية بسبب التأثر بالفرنجة والإنجليز حالًا وأحوالًا؛ فهب ناصحًا لزيارة مهد العروبة: “أيها الإخوان الأدباء: إن في أكثر المدارس السورية روحًا أجنبيًا من شأنه أن يبعد السوريين واللبنانيين عن كل ما هو عربي في غير اللسان. ولو استطاع لأبعدهم كذلك عن اللسان – ولقتل فيهم حب اللغة العربية. وفي البلاد اليوم سياسة توسع الثلمة بيننا وبين العرب وبلادهم. أنظل دائمًا حيث كُنّا مدة خمسين سنة؟”
ثم حزم الريحاني -بعد هذا الاستفهام الممض- حقائبه متوجهًا لجزيرة العرب عام 1922م وهو لا يعرف عنهم -آنذاك- غير ما تحكيه الأمهات في حكايات ما قبل النوم لصغارهم: “هس، جا البدوي! والبدوي والأعرابي واحد إذا رامت الأم بعبعًا تخوف بِه أولادها. ثم قال مواصلًا: “هجرت وطني وفِي صدري الخوف ممن أتكلم لغتهم والبغض لمن في عروقي شيء من دمهم”.
كانت سياحة الريحاني ولقاءاته بملوك العرب ورجال البادية، قد شكلت منعطفًا فاصلًا في تلك المناغاة التي تشرّبها، وهو في سن الطفولة ورضع لِبانها قبل أن يُفتق لسانه بالكلام!
وكان من نتائجها أن توطدت علاقته بشكل خاص مع الملك عبدالعزيز لعقدين من الزمن، حتى أصبح الصديق المخلص -على حد وصف جلالة الملك له- إذ كانَ خير من يمثله في السِفارة والمعاهدات، وانعطف حبه كذلك إلى ما رأى في البدو من كرمٍ لا ينتهي وحريّة لا يمكن استعبادها وأخلاقًا لا تقبل المداهنة والتزلّف.. فكتب ووصف وألّف الرسائل والكتب عن أمة البدو الأبية، التي صنعت مع الملك عبدالعزيز مجدًا عظيمًا اسمه المملكة العربية السعودية.
هذه النظرة التي تغيرت اعتمادًا على ما شاهده الريحاني وعاشه، بقيت دون تغيير عند كثير ممن لا زالَ ذلك اللبن ينشغ في شرايينهم بحكايات البعبع البدوي الذي تمدّد بغلبة الأعاجم وطغيان أبواق التلوث، حتى نشأ من خَدَرِ التلقين الموجّه أجيالٌ من أمثال شربل وهبي، إذ جاء كصورةٍ واضحة لذلك اللبن المُتَنغّش بحرارة النفثات..
الريحاني قال بجلاء: إن سبب إثارة هذه الإحن وامتلاء ذاكرة “عرب الشمال” بها تجاه جزيرة العرب، مبعثها الكتابة التي تبثها وزارة المستعمرات في الحكومة البريطانية، التي تعلم عن البلاد العربية مالا يعلمه حتى العرب أنفسهم، لذلك صنعت مادة الفُرقة في كل قُطر، وبثت الصورة التي رأى خلافها حين زيارته.
هذا، ولم تكن صورة البدوي المرعبة مقتصرة على حكايات ما قبل النوم لأطفال بلاد الشام، بل غذّت الثقافة العثمانية الهجينة والتعاطي الوحشي الهمجي طوال مئات السنين ذلك الأمر، إذ ظلت تقتل وتصلب في طرقات الحج من أهل البادية دون وجه حق، وتحمل الرؤوس وتحرق الأجساد الحية، ثم تصوّر المجازر في المدن التي تصلها كمكة والمدينة بأنها نتيجة اعتداءات النهب والسلب، فتكبر ذات الصورة -للأسف- عن البدو لدى فئام الناس الذين توافدوا وعاشوا داخل أسوار تلك المدن، وليس لهم من العلم أكثر مما يتلقوه عن أمراء المِحْمَل وقادة الجيش، الذين زوّروا حقيقة التاريخ أثناء توزيعهم للعوائد والمبرّات الخيرية.. وقد وصف الجزيري الحنبلي تلك المآسي والمظالم كشاهد عيان في درره الفرائد ..
إن القضية -كما أراها- ليست عنصرية تفوّه بها شربل مؤخرًا، بقدر ما هي نتاج تشويه ممنهج طال واستطال في صفحات التاريخ، ونمى وشب عن الطوق في غابر فتراته، فنزّ بقيحٍ ملوث ودمٍ فاسد، ولا زال!
0