لا أبالغ إذا قلت إن قبائل شهران العريضة تتفوق بثقافة العفو، والتسامح والمواقف النبيلة، وآخر سمو ثقافة قبائل شهران العريضة تنازل حسن سعيد البجادي الشهراني، وإعلانه العفو والتسامح عن قاتل ابنه الوحيد لوجه الله تأسيًا بما قامت به نورة آل عسيلة وأسرتها عندما أجارت قاتل ابنها في منزلها وعفت عنه، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ولا أبالغ إذا قلت إن امرأة مثل “نورة آل عسيلة “، وعموم أسرة آل راجح وضعوا القبائل على محك ثوابت الدين الإسلامي الحنيف.
قصص العفو والتسامح كثيرة وجميلة، ولكن قصة أسرة آل راجح من قبيلة بني واهب شهران ذات بُعد إنساني حقيقي وحُسن جوار صادق، فلم يدر بخلد “نورة” أن ابنها “عبدالله وعلى بُعد أمتار عن منزلها يلفظ أنفاسه الأخيرة قتلًا من ابن الجيران، ولم يدر بخلدها أن القاتل الذي تعزه وتغليه كابن من أبنائها سيقف أمامها بأيدٍ مرتعشة يحمل السلاح، ويقدمه لها بعد وصوله لمنزلها مع أسرته، وقال لها قتلت ابنك عبدالله، وهذا سلاحي خذي بثأرك أو أجيريني قالت لقد أجرتك، وتركت القاتل وأمه وزوجته وأطفاله داخل منزلها وخرجت لتبلغ أبناءها بجيرتها للقاتل، وقالت لهم هو في وجهي، سلمت أمري لله، ثم ولاة أمرنا يحكمون بما أنزل الله عندها كظم الأبناء البررة غيضهم، والتزموا الصمت أمام باب المنزل الذي يوجد فيه قاتل أخوهم.
في ذروة المشاهد الدرامية أغلقت أسرة القاتل الأبواب، وغابوا عن المسجد، وقرروا مغادرة القرية والرحيل لمكان بعيد عن البيئة التي عاشوا وتجاوروا فيها احترامًا “لنورة” وأبنائها، ولكن “نورة” وأبناءها رفضوا هذا الرحيل المر، وقالوا أنتم جيران لنا وبيننا وبينكم العيش والملح، وما حدث قضاء وقدر، وطلبوا فتح الأبواب وعدم الرحيل من منازلهم والصلاة معهم جماعة في المسجد، والحفاظ على علاقة الجوار.
لم تنتهِ الحكاية السردية الخيالية، بل وبعد مضي سنة وسبعة أشهر، وفي ليلة عيد الفطر ١٤٤٢هـ أتى القرار الثاني؛ حيث قررت “نورة” وأبناؤها العفو نهائيًا عن قاتل “عبدالله”؛ حيث اتصلوا على أم القاتل ليبلغوها بالتنازل لوجه الله، وعليكم تخيل المشهد بعد العفو لوجه الله، وبعد أن قامت “نورة” وأبناؤها بتهنئتهم بعيد الفطر المبارك.
مع هذه الحبكة الدرامية، وما آلت إليه من عفو وتسامح، دون مساومة، ودون أن تحصل أسرة آل راجح ووالدتهم على مقابل مالي أو عيني نهائيًا، وهنا تتضح قيمة وعظمة التنازل، والعفو والتسامح، وهنا زارهم أمير منطقة عسير الأمير تركي بن طلال بن عبدالعزيز، وأتت الوفود تقديرًا لـ”نورة” وأبنائها، وفي مقدمتهم مشايخ وأعيان المنطقة ونخلص إلى أن “نورة” قدمت رسالة مضمونها التمسك بثوابت الدين الإسلامي انطلاقًا من (قد أجَرْنا مَن أجَرْتِ يا أمَّ هانئٍ) ونخلص إلى أن قبائل شهران وجهت رسالة لبقية القبائل؛ خاصة التي تجاهر بتجارة الدم، وتبالغ في الديات، ووصل ببعضها إعلان جاهليته النتنة بقوله: “لن ينفذ القصاص في صبي من صبيان قبائلنا لو دفعنا خمسين مليون ريال” وهذا هو الجهل بعينه.
لله دُر “نورة” كيف حولت حقد الثأر والقصاص إلى جوار وتسامح وتقارب بين الأسرتين وكأنهم أسرة واحدة، ولله دُر هؤلاء الأبناء البررة الذين حولوا قلوبهم المليئة بالغيض والحنق إلى صبر واحتساب ومواخاة مع أسرة القاتل، ولله دُر القبائل التي تسابقت في تكريم أسرة آل راجح بما تستحق، ولا عزاء للموسرين الذين يحضرون في السوق السوداء لتجارة الدم بإثمها ومعاصيها، ويغيبون عن مثل هذا المشاهد بجمالها وناموسها.
الرجال لها مواقفها ولكن الواهبيه الشهرانيه موقفها عن ألف رجال وأشهد أن موقفها نوماس وفخر لكل شهراني وشهرانيه