المقالات

محيطك يصنع رؤيتك

“الطبيب يشاهد كل الضعف البشري، والمحامي لا يرى إلا الشر “
سطر لنا شوبنهاور فيما بين المزدوجين طريقة انحصار العالم في رؤيتنا وأن كل ما نمر به تصبغه عقولنا، وتحرره أروحنا، ونتناقله كحق لا يقبل الباطل، وأيقونة الصواب الأوحد بلا ريب.
هذا هو بحر الاستغراق إن جاز التعبير، وحين يستغرقك الواقع الذي تعيشه يصبح هو عدسة عينيك وأحرفك الوحيدة المفهومة، ويحكيك أكثر مما تحكيه،
المحامي مثلاً ومن خلال عمله المرتبط باقتصاص الحق من مغتصبيه، وكثرة مراسه في هذا الحقل، ومع زخم المعروضات التي تطلب الاستنصار يُهيئ له أن الأرض خُلقت ليُغتصب الحق، ويتباكى المظلوم على أعتاب حقه الضائع، كما أن الطبيب حكم عليه الواقع ألا يرى سوى الضعف البشري الذي حكاه “فيلسوف التشاؤم الأول” فأصبح يرى هذا الضعف سمة مجتمع تستحق الشفقة وقس بقية المهن وأخريات الأعمال.
بصرف النظر عما سطره شوبنهاور وما يعارض فيه نفسه أحياناً وما رسخ لدينا من توجيه القارئ نحو التشاؤم في الكثير من مقولاته، إلا أنه في هذا المنقول يُعطي رؤية مناهضة لما يقول به، ولو كان من زاوية خفية، وبُعْدٍ مُضمرٍ مستورٍ.
فكأنه يقول لا تجعل الواقع الذي تعيشه قادراً على صنع فكرتك تجاه العالم، ولا يعدو الضعف والشر الذي تراه إلا نبرة واحدة من بين الكثير من النبرات، ونغمة قصيرة من بين الكثير من النغمات الطويلة، والتي هي في حقيقتها نغمة الكون الكبير.
إذاً هناك فطرة لرؤيتنا، وهناك طارئ صنعه الواقع المحموم، وللخروج من تلك النظرة عليك استشعار أن ما حولك ليس هو كل الحياة، وأن الذي تعيشه ليس سوى طبيعة لمحيطك فقط، وأن محيطك ليس العالم، وأن خلف ما تعلم باحة كبيرة تكابرت على جهلك وتمنّعت على علمك.
يرى ديكارت من خلال قواعده التي جعلها نُظماً لتوجيه الفكر أن أول خطوات الفهم الصحيح هي تجريد الأفكار من التصورات، أو لنقل من التصورات المسبقة، والتي صُنعت بأيديٍ خفية، وجعل شرط الفهم هو التبسيط، وتقسيم المقسم، ولذا يقول: “إن كان هدفنا أن نفهم مسالة ما فهماً تاماً فينبغي أن نجردها من كل تصور غير مجد، وأن نبسطها تبسيطاً، وأن نقسمها بواسطة التعداد الى أجزاء صغيرة قدر الاستطاعة”
أخيراً.. افرز محطات حياتك عن بعضها، ولا تكوّن نظرة عامة بمحطة واحدة فهو ظلم لتلك المحطة وظلم أعم وأكبر لتلك النظرة.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button