يعدُ قطاع المقاولات من أهم القطاعات الحيوية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقطاع العقاري السكني، ولا يمكن لهما الانفصال عن بعضهما البعض، فالعلاقة بينهما علاقة طردية فكلما زادت معدلات البناء بمختلف أنواعه السكني منه والتجاري كلما ارتفعت القيمة السوقية لهذا القطاع، وزادت معدلات أرباحه ونموه إلا أنه مما يؤسف حقًا أن هذا القطاع أصبح يندرج تحت مظلته الغث والسمين، وبات يدعي كل من هبَّ ودبَّ بأنه صاحب صنعة، وله باع طويل في هذا المجال فبدأ يعج بالأخطاء والمخالفات التي عادةً ما يذهب ضحيتها المواطن الذي يدفع الثمن غاليًا من صحته وماله ووقته؛ نظرًا لأن المؤسسة التي أبرم معها العقد لم تلتزم بتنفيذ بنود العمل، وإنما كان همها الأول والأخير قبض مقدم العمل أو دُفعاته المتفق عليها، ومن ثم بعدها يكشر بعض أصحاب تلك المقاولات عن أنيابهم وتتضح سوء نياتهم من خلال المماطلة وعدم الالتزام بالعقود المتفق عليها فيتوقف العمل، ويقع المواطن بين كماشتي مماطلة المقاول وذهاب أمواله بسبب جهله في أنظمة البناء وصياغة العقود، وعدم درايته الكافية بالمواصفات والشروط والمعايير الهندسية، فيكون ضحية لغش واحتيال ذلك المقاول الذي وضع نصب عينيه الربح المادي بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة .
ولعل من أهم المعوقات التي تؤدي إلى هذه الفجوة العميقة بين أصحاب العمل والمقاولين هي عدم مقدرة بعض المقاولين على استكمال المشاريع التي بدأوها إما بسبب سوء تقديراتهم للقيمة المالية الصحيحة للمشروع، وذلك لقلة الخبرة لدى البعض منهم مما يترتب عليها خسارته وعدم مقدرته على تكملة المشروع، وإما بسبب التغيّرات المفاجئة في أسعار مواد البناء وفي قوانين وأنظمة العمل والسجلات التجارية التي قد لا يتنبّه لها بعض المقاولين، ولا يأخذها بعين الاعتبار؛ خاصة عندما يماطل في إنجاز العمل مما يجعله يستغرق وقتًا طويلًا في التنفيذ، ومن ثم يتفاجأ بالارتفاع الكبير في الأسعار التي تتغير بين عشية وضحاها بحسب ما يطرأ على الأسواق العالمية والمحلية من تغيرات؛ فيكون ذلك عائقًا له في توفير المواد اللازمة لاستكمال العمل مما يؤدي إلى لجوء البعض منهم للطرق الملتوية، ومحاولة التهرب من المسؤولية، واختلاق الحجج الواهية معتقدين بذلك أنها السبيل إلى خلاصهم من الحفرة التي حفروها بأيديهم.
وعطفًا على ذي بدء؛ فإن ساحات القضاء والمحاكم مليئة بالقضايا المرفوعة من مواطنين على شركات ومؤسسات تمتهن عمل المقاولات بسبب إخلالها في تنفيذ العقود الموقعة بين الطرفين سواء من حيث العيوب الفنية والهندسية التي تظهر أثناء مراحل التنفيذ، أو من حيث عدم تسليم البناء في المواعيد المحددة، أو مخالفة الاشتراطات الفنيّة المنصوص عليها في العقد، وعدم تطابق البناء مع التصاميم الهندسية.
لذلك فإنه من الأخطاء الشائعة التي يرتكبها صاحب العمل وتمكن المقاول من الإخلال بالعقود المبرمة معه هي قيام المواطن بسداد معظم المبالغ المتفق عليها لشركة المقاولات قبل بداية العمل أو أثناء العمل دون وصول نسبة التنفيذ لمراحل متقدمة مما يشجع صاحب تلك المؤسسة على التوقف عن الاستمرار في تنفيذ العمل؛ وذلك إما بسبب ارتباطه بالعمل في مواقع أخرى أو لعدم قدرته المالية على إتمام الأعمال المناطة بمؤسسته بموجب العقد المبرم بين الطرفين مما يضطر صاحب العمل إلى دفع مبالغ مالية لشركات أو مؤسسات أخرى في سبيل استكمال العمل؛ فتكون الخسائر بالنسبة له مزدوجة ومرهقة لكاهله.
ومن هنا فإننا نناشد الجهات الرسمية ذات العلاقة التي تشرف على هذا القطاع الحيوي بالاهتمام به ووضع الحلول السريعة للحفاظ على سمعته من جشع بعض المقاولين وحيلهم وأساليبهم الملتوية؛ حتى يكون المواطن في مأمن لأعماله الإنشائية وما يدفعه من أموال طائلة لمؤسسات ومقاولات البعض منها لا تلتزم بمعايير الأمانة والضمانات القانونية للأعمال الإنشائية أثناء العمل وبعد تنفيذه. وذلك لن يتحقق إلا بإعطاء المزيد من الصلاحيات للجان والهيئات المختصة بهذا الأمر وإعطاءها للنظر في الخلافات التي تحصل بين المقاولين وأصحاب العمل، وكذلك إعطاء المزيد من الصلاحيات للمكاتب الاستشارية الهندسية للنظر بشكل سريع في الخلافات التي تحصل بين كافة الأطراف، وكذلك وضع أسس ومعايير قانونية ثابتة تكون أساسًا للاتفاقيات والعقود التي تُبرم بين أطراف العمل؛ بحيث تشتمل على شروط جزائية وعقوبات صارمة على من يخل ببنود هذه الاتفاقيات من الطرفين سواء في التكاليف أو مواعيد التسليم أو مواد البناء المستخدمة.
وختام القول؛ فإنه يجب على كل مواطن يريد البناء أن يدرس بنود العقد جيدًا قبل توقيعه مع المقاول، وأن يكون العقد متضمنًا كافة المواصفات المطلوبة والتفاصيل الدقيقة بما فيها نوعية المواد التي يجب استخدامها في البناء كما يجب عليه أن يتحرى الدقة في اختيار الشركة أو المؤسسة المؤهلة ذات الإمكانات العالية، واستبعاد الشركات الصغيرة أو المجهولة غير المؤهلة حتى لو قدمت عروضًا مغرية للبناء؛ لأن تلك العروض ربما كانت الطُعم الذي يرميه أرباب تلك المؤسسات فتكون تلك التنازلات منهم على حساب المواصفات المطلوبة أو جودة المواد المستعملة في البناء أو الإخلال بالمواعيد المحددة للتسليم فتأتي العواقب بعد ذلك وخيمة، وهو ما يكتشفه المواطن لاحقًا، ولكن بعد أن يقع الفأس في الرأس عندها لا ينفعه عض أصابع الندم بعد أن زلت به جرة قلم.
وخزة قلم:
من يسلم نفسه لحبل المشنقة؛ فلن ينقذه الصياح بعد التفافه حول عنقه !