المقالات

المزلقاني..القرار الصعب!

▪️مشهد تخيلي لمأساة طالما تتكرر أثناء عبور الأودية في أوقات الأمطار، وجريان السيول الجارفة يذهب ضحيتها أسر بكاملها..!!

▪️بينما كنتُ أشق طريقي متجهًا لمنزلي القابع في أحضان تلك القرية الوادعة في ليلةٍ من ليالي الشتاء الممطرة.. البرد قارس، صوت الرعد يزلزلُ الأرض، البرق يفج الآفاق، المطر ينزل بغزارة، الظلام حالك السواد، الرؤية بدأت تتعتم، إذ تحول زجاج سيارتي لما يشبه الثلج..أدرت ماسحات الزجاج الأمامي بسرعة، فتحت سخان الهواء لعله يُذيب ذلك الصقيع لتتضح معالم الطريق..مخاطرة غير محسوبة..كان من المفترض أن أتوقف، لكن لم يتبقَ إلا القليل عن منزلي..سأكمل ماهي إلا دقائق وسأصل..هاأنا أنزل لبطن الوادي السحيق الذي يعبره الطريق المسفلت -فيما يُعرف بالمزلقان- فجأة توقف محرك سيارتي الفارهة التي للتو استلمتها من إحدى وكالات السيارات بثمن باهظ عن طريق برنامج التأجير المنتهي بالتمليك. يا ألله!!
ماذا جرى؟!
هل لفح المطر أطفأ المحرك، أم كهرباء البرق أتلفت أحد أجهزة التحكم الآلي، أم ماذا؟!
ياألله!!.
في هذا المكان المهدد بالخطر تحديدًا!!
هل أنتظر في سيارتي إذ يصعب النزول في هذه الأجواء؟!
ماذا لو انتظرت ستأتي السيول الجارفة لا محالة؟!
كيف لي أن أغادر سيارتي، ولم أبلغ بها منزلي بعد، والجميع ينتظر رؤيتها على أحر من الجمر بعد حرمان دام سنوات؛ كي نتنقل بها..وقد وعدتهم برحلة تعوضهم عن تلك العزلة في تلك القرية الهادئة؟!

يالها من حسرة!!.
أبقى.. أغادر!!.

لا، سيارتي، دم قلبي!!.
الألم يعتصرني!!.
حيرة بين الإقدام والإحجام!!.
لا لا، أنا في خطر، ماذا لو أتى السيل سيجرفني معها؟!
سأحاول إعادة التشغيل، لعل وعسى.. لا فائدة!!.
يا ألله!!.
ماذا سأفعل؟!!
لابد أن أخرج.. كيف أستطيع أن أتحمل هذا الصقيع..المطر شديد!!.
ربما سأهلك.. إن لم يكن هنا بالسيل فلربما بالبرد والمطر!!!.
معادلة صعبة، قرار محير.. بين هلاكين!!.
يصرخ من داخلي صوت عالٍ: الروح الروح ما بعد الروح روح !!!.
حسنًا.. حسنًا، سأخرج.. سأخرج
عونك يااارب
كيف لي أن أعبر عرض هذا الوادي الفج!!
صخور مستديرة ضخمة!!
حفر عميقة جدًا، وبالتأكيد ستكون ممتلئة بالمياه!!
المطر ينزل بغزارة!!
الريح عاصفة!!
البرد قارس!!!
الجو مظلم!!!
تختلجني هيبة، خوف، قلق.. هل سأنجو قبل أن يُداهمني السيل؟؟!!.
نسيتُ كل شيء..انحصر التفكير في النجاة، والنجاة فقط!!
ياله من موقف رهيب!!.
فتحت باب سيارتي..داهمني المطر ولفح البرد.. أغلقت الباب.
الخطر قادم لا محالة، لابد أن أخرج!!
فتحت ثانية وثالثة.. لا بد من المغادرة بل المغامرة!!
لم يعد الخطر يمهلني.. حسنًا سأخرج.
بالفعل هذه المرة خرجت.. ترجلت من سيارتي، لم أعد أفكر في سوى النجاة!!.
خطيت خطوات في ظل ظروف قاسية.. بدأ قلبي يتأقلم.. يقسو ليجاري تلك الصخور وذلك الظلام المدلهم، ليُجابه تلك العواصف، ليقول لجسمي النحيل: اصمد فالموقف صعب صعب؛ خطير خطير جدًا.. فإما خور وموت أو صلف وحياة!!.
معاناة .. معاناة، لكن لم أكن آبه بكل تلك الصعاب، العوائق، الحفر، البلل، البرد، المطر.. كلها تلاشت أمام شق طريق النجاة!!.
هآنذا أخترق الوادي.. أصل لشاطئ النجاة، لربوة ذات قرار..الحمد لله الحمد لله نجوت بفضل الله من مداهمة السيل.
عندئذ أسمع هدير السيل..تلاطم الصخور، صدى صوته المجلجل في الجبال التي تحف الوادي.. لا بل في قلبي المكلوم.. سيارتي، سيارتي!!.
وضعت يدي في جيبي كي أمسك جوالي.. لم أجده، لقد نسيته في سيارتي إذ من عادتي أن أضعه جانبًا فور جلوسي خلف مقود سيارتي كي لا أنشغل به.

يا ألله يا ألله!!
جوالي فيه كل أسراري، محفظتي البديلة، أرقام تواصلي، نمر معاملاتي، صور ذكرياتي، كل مهماتي!!.

جوال؛ لا ضير فقد ذهبت سيارتي.. حلمي الآسر!!.

وقتئذٍ .. كأنما بدأ فصل جديد في مسرحية تلك المعاناة!!
الآن أسمع ضربة صخرة في صفحة سيارتي، أخرى أقوى، كأنما تضرب قلبي.. يا ألله !!.
استرجعت
‏﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّاْ إِلَيْه رَاجِعُوْن﴾
اللهم أجرني في مصيبتي، وعوَّضني خيرًا منها.

لم أعد أسمع مناطحة السيل لسيارتي.. لقد جرفها إلى المجهول ومعها جوالي!!.

ذهبت.. انتهت!!.

لكنها جديدة لم أصل بها بعد لمنزلي..لم يرها أبنائي، لم تستقلها زوجتي المحرومة أمدًا بعيدًا.. لم أوفِ بوعدي أن أذهب بوالديّ للعمرة..تلاشى حلم أسرتي في رحلة تعوضهم عن ملازمة تلك القرية القابعة بين الجبال!!.
يا ألله!!
♦️لا ضير.. السيارة تتعوض.. لكن من يسدد ديوني المثقلة لكاهلي؛ مائتي ألف أو يزيد قيمة سيارتي!!
القسط عالٍ، القرض الشخصي هو الآخر يستنزف ماتبقى من الراتب.. ما الحيلة؟!

لم يعد في الراتب متسع لقسط جديد!!.

ما تبقى بالكاد يكفي الحد الأدنى من المصروف الشحيح!!.

اللهم أعني على سداد ديوني.. لا سيارة.. لا راتب سلم، خسارة تتلو خسارة!!.

ماذا فعلت يااارب؟!
هل لذنب اقترفت أم امتحان؛ أأصبر أم أتضجر؟!
إلى من أشكو؟!
إلى عدو يتجهمني أم إلى بنك لا يرحم؟!

أحترق من داخلي.. لكنه كان لطفًا من الله أن ذلك التفكير غمرني، أوقد لي نارًا في داخلي؛ أصطلي بها من ذلك البرد القارس فلم أعد أبالي!!.
تعطلت أحاسيسي..كنتُ في غيابة جب من الألم.. المعاناة.. القسوة !!.

♦️نسيتُ كل شيء من حولي حتى سيارتي، جوالي، أسرتي.. انحصر تفكيري في ذلك الدين.. كيف سأعيش لسنوات محروم من بحبوحة الحياة، ولا سيما أنني متقاعد والراتب جامد لا يزيد!!.

كيف سأواجه أسرتي، وهم متلهفون لرؤية تلك السيارة الفارهة التي هاتفوني قبل أن يلتهمها السيل بدقائق معدودة مستبشرين برؤيتها!!.
كيف سيتقبلون الخبر بعد أن عرفوا أنني على بعد كيلو مترات معدودة، وعلى مقربة منهم؟!
هل سيصدقون أن السيل التهمها؟!
هل سيكرهون المطر بعد أن كانوا يستبشرون له أم هل سيذهب تفكيرهم مثلي لمن فكّر ونفذ هذا (المزلقان، المصيدة المخادعة) بدلًا من أن ينصب الجسر لعبور الوادي؛ ليكون أكثر أمانًا لمرتاديه.

حسنًا.. سأعود لأسرتي كما خلقني الله أول مرةٍ متجردًا من حطام الدنيا إلا من ثيابي المبللة والتلونة بلون الطين.. وسأدلف إليهم مرتجفًا، متظاهرًا بالبرد بينما الواقع من ألم الصدمة والتفكر في العاقبة!!.

♦️هنا دلفت لي فكرة.. لعل فيها الفرج:
ماذا عن التأمين الشامل، هل سيعوضني ببديل عن سيارتي، أم سينهي التزامي البنكي مقابل التمويل التأجيري أم سيماطل أو يوجد له مخرج؟!
هل سيختبر محاميه في مدى نجاحه في تحميلي مسئولية ذلك الحادث، وبالتالي التملص من التعويض بحجج لا أفهمها أو لا أقتنع بها.. لكنها ستكون السوط الذي سيقتل أملي؟!!

♦️هل ستأبه بي وبمعاناتي وغيري وزارة النقل في تلافي ما يقع من ضحايا غرق أو خسائر في المركبات جراء ذلك المزلقان الذي أستعيض به عن الجسور؟!

هل وهل.. ولعلها تجد إجابة أو استجابة؟!!

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button