تُواكب السعودية المتغيرات الإقليمية والدولية، واستكمالًا للجهود الدبلوماسية التي تبذلها السعودية إقليميًا ودوليًا في مواجهة التحديات التي تهدد الأمن العربي، في استعادة سيادة العراق وعودته إلى محيطه العربي، وساهمت في عقد قمة بين مصر والأردن والعراق، كان لابد من اللجوء نحو وقف تحويل العراق إلى محميات وطوائف متنافرة بسبب استدعاء الحروب الدينية من القرون الوسطى، واستدعاء الحروب بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية، التي توجت بدعم الثورة الخمينية، التي ابتكرت ولاية الفقيه من أجل زعزعة المنطقة وإشعال فتيل الحروب المذهبية، وبشكلٍ خاص زرع فتيل الفتنة بين المذهبين الكبيرين في العالم الإسلامي.
هدفت السعودية من خلال استضافة المرجعيات العراقية في مكة في 4/8/2021 تحت رعاية رابطة العالم الإسلامي من أجل تحقيق الانسجام بين مكونات الشعب العراقي واجتماعهم على هوية واحدة، كما كان العراق من وحدة الصف.
أرادت السعودية أن يكون هذا الملتقى يفتح قنوات الحوار والاتصال والتواصل الإيجابي بين العلماء لمعالجة القضايا المستجدة والأزمات المتجددة من أجل أن يسهم في دعم الكيان السياسي للدولة لاستقرار العراق وازدهاره، ويسهم أيضًا في الاستقرار والازدهار الإقليمي والدولي.
استرجع لقاء المرجعيات وثيقة مكة التي عقدت في 19 أكتوبر 2006 بعد تفجير مرقدي العسكري في 22 فبراير 2006 لزرع الفتنة المذهبية والطائفية في العراق، وتم قتل الإعلامية أطوار بهجت هي وزميليها المصورين الذين كانوا يغطون تفجير المرقدين، ولإخفاء الحقيقة من أن من قام بهذا التفجير هم من الحرس الثوري الإيراني، ودعت وثيقة مكة إلى توحيد الخطاب الإسلامي، وكذلك التشديد على حرمة المساجد والأماكن المقدسة، مع دفع أبناء الأمة الواحدة على نبذ الخلاف، وخرجت وثيقة مكة من 11 بندًا لغة دينية تسامحية تدعو إلى احترام السلوك المذهبي للطرفين والطقوس الدينية لهما، والابتعاد عن العنف والتجريح والمساس بالحرمات لدى الطرفين.
لكن إصرار إيران على اعتبار العراق ولاية إيرانية، دعمتها المتغيرات الإقليمية بمجيء ثورات الربيع العربي، الذي جعل إيران تتمسك أكثر بالعراق بل وساعدها على توسيع نفوذها الإقليمي، حتى أصبحت تتبجح من أنها تحتل أربعة عواصم، فاستمرت الطوائف متخندقة في العراق، وابتلي العراق بداعش الذي شكلته الاستخبارات العالمية بالتعاون مع الحرس الثوري الإيراني الذي سيطر على نحو ثلث العراق، كان ذريعة لتشكيل الحشد الشعبي الذي لا يزال ولاؤه للحرس الإيراني.
تقود السعودية اليوم محور عربي يزداد تماسكًا وقوةً، وأصبحت لديه قدرة في مواجهة التحديات في شرق البحر المتوسط وفي ليبيا وفي مناطق عدة، بجانب فشل قمة كوالالمبور الموازية لرابطة العالم الإسلامي، ما جعل السعودية ممثلة في رابطة العالم الإسلامي تدعو المرجعيات العراقية للاجتماع في مكة من أجل التنسيق بين المرجعيات في الفترة المقبلة، وترشيد الفتاوى الدينية من قبل الطرفين، بما يحقق مقاصد التشريع في حفظ الضرورات الخمس، الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، على المستويين الفردي والمجتمعي، بما يحافظ على المشتركات الإسلامية والإنسانية للوصول إلى وحدة الكلمة، وحفظ هوية الوطن العراق التي ترفض أي إرهاب وتدين العنف.
مع أهمية إشاعة القيم المشتركة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية وتلتقي مع القيم الإنسانية وتدعو لها، من أجل بث روح التسامح، والإخوة الدينية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، والتعايش السلمي، والاحترام المتبادل، وفهم معنى الوسطية والاعتدال، الذي يعني نبذ العنف والتطرف والغلو، مع إعلاء فقه السلم، الذي يدعو إلى استيعاب الخصوصية المذهبية لكل طرف في دائرة دينهم الواحد.
وما عدا ذلك يدور في خيال الطائفية المقيتة التي حذر منها الإسلام، وحذر من تبعات خطرها، وهي دخيلة على العراق، ودخيلة أيضًا على قيم الدين الإسلامي، ومبادئ الوطنية، بل يجعل الطائفية تنزلق نحو متاهات فكرية تقود للصراع والانغلاق، فيما أهل الإسلام على يقين أن الطائفية ليست من هدي الإسلام في شيء، من أجل أن يسهم ذلك في بناء المجتمعات وازدهارها واستقرارها، وعودة العراق إلى عراقته وحضارته.
لذلك ركزت السعودية على مخاطبة مرجعيات العراق الذين يشعرون أنهم من بلد تجذر في الرسوخ مجده من عراق العروبة والإسلام والإنسانية، قدموا بنبل إلى بلاد الحرمين الشريفين بنبل مقاصدها، وهم الكوكبة العلمية بما تمثله في فضائلها الرحب والحاضن من مرجعية تستحق التقدير، والتي هي بدورها قدمت شكرها لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان على جهودهما في رعاية المبادرات التي تعزز التعايش السلمي والحوار الحضاري ومواجهة التطرف والعنف ليس فقط في العراق بل في العالمين العربي والإسلامي، مقدمين في نهاية الملتقى الدعوة لأمين عام الرابطة لزيارة العراق.
——————————
أستاذ بجامعة أم القرى بمكة