منتدى القصة

“السُّترة …”

قصة قصيرة

اقتحمها العطرُ النافذ ، حين كان زوجُها ينظفُ ثوبَ الدمية الجميلة المعروضة للبيع ، والذي اتسخ من عوادم السيارات والغبار المتطاير من أحذية المارة . أسند ظهر الدمية بجوار أعواد البخور – التي أشعل بعضها لجذب الزبائن – وعلب الثقاب وعلب السجائر الرخيصة على سور مستشفى الأورام ، الذي استأصل فيه أحدَ ثدييها بعد أن باع كل ما يملك ، حتى لم يتبق له سوى هذه البضاعة الهزيلة و السجادة القديمة التي أصرّ – مثل كل يوم- أن تجلس عليها ، مُلقيا على ساقيها سُترتَه القديمة لتتدثر بها من البرد ، فأدخلت إحدى قدميها في أحد الكُمّين ، ولفّت ساقها فوق الساق الأخرى ، حتى سحقت رقبةَ السّترة بينهما .
انبعث العطرُ من السيارة الفاخرة التي اندفعت ناحية الرصيف ، فلملمت ساقيها سريعا ، وقد أيقنت أنها ستدهسُها ، انزلقت سُترةُ زوجها على التراب ، وانكشفت بضاضة إحدى الساقين ، أسرعت في ارتباك تُغطيها بالسُّترة المُتربة ، في الوقت الذي فتح فيه باب سيارته الفاخرة ، مائلا من فوق مقعده الوثير ، وهو يمدّ كفه بورقة مالية كبيرة لشراء علبة ثقاب ، وعيناه تتنقلان بين عينيها اللوزيتين ، وشفتيها الممتلئتين المنفرجتين- كآهةٍ مُرجَأة – وثدييها النافرين تحت الثوب كنداء عاجلٍ . كادت الدميةُ تقعُ من فوق السور حين رفع الزوجُ يده عنها ليمسكَ بالورقة المالية ، فوضعها بجوار علب الثقاب التي حصل صاحبُ السيارة على واحدة منها ، وعيناه تخترقان الثوب ، فأسرعتْ دون وعي تعدلُ طاقية زوجها القطنية التي وضعها بيده بديلا للثدي المُسأَصل ، بعد أن حشاها بما تبقى من مِزق جلبابه القديم ، وخاط حواشيها بالغرزة العمياء ، وثبّتها بدقة وهو يربّتُ على كتفها مُهوّنًا .
حدق في ارتباكها مُبتسما وهو يزيحُ يدَ زوجها التي امتدت ببقية الورقة المالية ، أغلق باب سيارته ، فاندفع الهواءُ مُطفئا أعواد البخور ، حاملا موجة عالية من عطره النفاذ ، أخرج عود ثقاب ، أشعل غليونه الذي صُنع تجويفُه من الورد البري ، وهو يحدّقُ في المرآة الجانبية لسيارته ، يتابعُ احمرار وجنتيها وتراجع رأسها إلى الوراء ، وهي تُوسعُ لعطره طريقا في مسامها .
كانت فترة غيابها كافية لاتساخ ثوب الدمية وتلطّخ وجهها بسواد عوادم السيارات ، بعد أن انشغل زوجها بالتحديق في كل سيارة فاخرة بحثا عنها ، و إشعال أعواد بخوره كلما انبعثت رائحة عطر نافذ من إحداها . وحين رآها تُجرّرُ قدميها من بعيد بثدي واحد ، دون سترة ، أدرك أن طاقية رأسه سقطت منها في التراب . اقتربت منه ، عادت برأسها إلى الوراء ، وهي تتشمم رائحة بخوره ، عاد برأسه إلى الوراء حين دهمه العطرُ النافذُ منبعثا من كل موضع في جسدها ، انحنت على يديه باكية ، دفعها بعنف وهو يلملم جسده المرتعش ، أبعدها عن سجادته القديمة ، نزع عن الدمية ثوبها المُتسخ ، كوّره ، دسّه في موضع الثدي الضائع ، ارتفعت ضحكته مخيفةً، وهو يرفع الدمية عاريةً، يعرضها للبيع مهرولا بين السيارات الفاخرة .

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. يا للمعنى ، ويا للسرد المبدع ، في موضوع غير مطروق – هكذا يُفهم العري في قصة السترة ، فليس هو الكشف عن المستور من الجسد ، ولكنه العري المستور أو المخفي في تفكيرنا ، كما أن النقص ليس في الجسد ، وإنما النقص في الوعي بالذات ، القصة الناجحة تستمد قوتها من الحرفية العالية لكاتنبتها ومن الزخم الداخلي للمضمون الذي تتحرك فيه الشخصيات ، كذلك اللغة التي تمثل وسيطا رمزيا بين الواقع والوعي به وتعمل على إضاءة الأفكار والإقناع بها . تحية إلى الكاتبة المهمة .

    1. تطرّقت في طرحك الرصين إلى موضوع القصة ، ودلالة العُري ، وطبيعة اللغة . وكل واحدةٍ من هذا جديرة بأن تكون عنوانا داخليا من عنوان ورقة نقدية كاملة ، وهذا ما نعهده فيكَ – ناقدا – أستاذ محمد : الرصانة والعمق ، والنظرة الشمولية التي تتجاور مع كشف سمات التفاصيل . كل الشكر والتقدير أستاذ محمد الدسوقى الناقد والمبدع الكبير .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى