ف-نار
بعضُ قواعد السلوك الإنسانيّ يكونُ فطرةً في الإنسان، فحاجتُه إلى النمو والحركة وإنجاز أعمالِه تدفعُهُ غريزيًا إلى إطعام نفسِه بما يُقوّمُ حياتَه، وفي المقابل فإنّ لديه في جسمِهِ مراكزَ استشعار لخطرٍ مُحتمَل إنْ هو أسرفَ فيها من حيث الكمّ أو الكيف، كأنْ يتناولَ أطعمةً في غير موسمها أو وقتها، كمن يعتادُ أن يُثقِلَ مَعِدَتَهُ بالطعام ليلًا، ولا يتناولُ الفطورَ إلّا نادرًا، فهذا بلا شكٍّ سببٌ رئيسٌ في الإصابة بالعِلل، وهذا الأمرُ يعرفُهُ الإنسانُ بفطرته أو من نتائجه التي تضطرّهُ إلى أن يُعيدَ تعديلَ سلوكه الغذائيّ بنفسه.
وفي الصحة العامة يتعرّضُ بعضُ تلك القواعد في المأكل والمشرب والنوم إلى كثيرٍ من النقد المصحوب بنصائح وإرشادات غصّت بها فضاءاتُ الإنترنت والمطابع، كأنَّ الإنسانَ قد فقد بوصلتَهُ، أو قَصُرَ فهمُه عن إدراك النافع والضارّ منها، ومن المُلاحَظ اليوم – بعيدًا عن الإحصائيّات والدراسات – أنّهُ معَ ازدياد تدخُّل الإنسان في أساليبِ عيشِه تعقّدتْ حياتُه، وتضخّمتْ عِلَلُهُ، وزادَتْ شكواهُ على الرغم ممّا ينعمُ به من رفاهية لم يتمتّعْ بها أجدادُه.
لقد أصبحَ الكلامُ في الصحة والغذاء مجلبةً للغـمّ، فكيفما قلّبتَ القنوات الفضائية، أو تصفّحتَ مواقعَ التواصل الاجتماعي، أو زُرتَ مكتبةً، أو تحدّثتَ مع صديق، طالعَتْكَ هذه المواضيع، وفي غالب الأحيان تكونُ هذه النصائحُ والتوجيهاتُ من البديهيات، وفي ظنّي أنّ هذا السّيلَ من المعلومات والمصطلحات وطريقة عرضها وتقديمها يعملُ كبرمجةٍ تُعيدُ تشكيلَ وعيك في اتجاهِ نمطِ حياتك، فتتبعُها حرفًا حرفًا حتى لا يكون لك اختيارٌ في ابتكار أسلوبك، وتفقد رقابتَكَ الذاتية على نفسك، وتُصبح منقادًا إلى ما يقولونه لك، ويغزوك القلقُ والتوجّسُ كلّما وضعتَ في فمِكَ لُقمةً، أو شربتَ شربةً.
إنّ القاعدةَ الذهبية التي ورثَها الإنسانُ منذ القِدَم هي “الاعتدالُ والاتزانُ في كلِّ شؤون حياتِه”، وفي ثقافتِنا الإسلامية جاءتْ هذه القاعدةُ في نصٍّ صريح في قوله تعالى: (وكُلوا واشربُوا ولا تُسرفُوا إنّهُ لا يُحبُّ المُسرفين) (الأعراف آية 31).
وفي السُّنّة المُطهّرة: “نحنُ قومٌ لا نأكلُ حتى نجوع، وإذا أكلْنا لا نشبع”.
وفي القول المأثور: “صُوموا تصِحّوا”.
وكذلك قيل: “المعدة بيتُ الداء، والحميةُ رأسُ الدواء”.
وإذا كان خيرُ الكلام ما قلَّ ودلّ، فما الجدوى من التكرار والإسهاب في ما يُفهَمُ بكلمات قليلة أو عبارات مقتضبة، خصوصًا ونحنُ نعلمُ أنّ تكرارَ الشيء يُفقِدُهُ تأثيرَهُ وجدواه، أمْ أنّهُ أمرٌ يُرادُ منه إشغالُ الإنسان بما لا يجبُ عمّا يجب، ولكي يعتريه التَّوجُّسُ والقلقُ كلّما جلسَ إلى المائدة، أو مدَّ يدَهُ إلى لقمةٍ طيّبة، فتُدرِكُهُ وساوسُه، وتُنغّصُ عليه عيشَهُ، وتتحوّلُ الأطاييبُ إلى سموم تُصيبُهُ بالعلل بدلًا من التَّمتُّع بالنِّعم!
لقد ورثَ النّاسُ قواعدَ ذهبيةً في المأكل والمشرب، لو وَعَوها، وتَمسّكُوا بها لتخلّصُوا من كثيرٍ ممّا يُسمّى اليوم “أمراض التغذية”، ولَزالَ منهم القلقُ الذي هو أبو الأدواء جميعها.