أفضل وصف لها هي معركة طواحين الهواء؟! تبدأ باختلاق أعداء وهميين، احتكار الحقيقة، ادعاء الوصاية على الإسلام ثم الحكم على ضمائر الناس وأخذهم بالنوايا ! ولابد أن يتبع ذلك بالضرورة اتهام المخالفين بالنفاق، الفسق، الزندقة والكفر إذا سمحوا لأنفسهم بالتفكير خارج الهامش المسموح به؛ حتى ولو بالدعوة للعودة إلى وسطية الإسلام والتعددية التي غيَّبت لصالح منهج متشدد أوحد بقي يقصي الجميع حتى رموز السنة، ولم يسلم منهم الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-، فكم تطاولوا عليه ! ومن قبله الإمام المجدد محمد عبده وغيرهما الكثير!!
الإسلام دعانا إلى العدل والإنصاف، قبل أن يدعونا للوسطية والاعتدال، ووصف رب العزة أهل الكتاب بقوله تعالى: ” لَيْسُواْ سَوَآءً
“، ولو قالها آحاد المسلمين اليوم، لكيلت له من رجال الدين هؤلاء أبشع الأوصاف، ولأتُهِم في عقيدته !! السبب احتكار تيار متشدد تصدر المشهد، وطال عليه الزمن، فأصبح له سدنة، وحراس يعظمون أكثر مما يُعظم الإسلام ورسوله – والعياذ بالله -، وأصبح المريد بين أيديهم كالميت بين يد المغسل، وإذا قال له ألق نفسك في النار لفعل؟! هذه هي الحاضنة التي فرخت داعش؛ فصرنا نرى الرؤوس تجز وتقطع وسط التهليل والتكبير ! ولأنهم جهلاء قساة القلب؛ صاروا يؤجرون اليوم من قبل مخابرات الدول الكافرة!!
وهنا، وللإنصاف أقول إن من يطلق عليهم وصف المحافظين اليوم في عالمنا الإسلامي ليسوا سواء؟! فمنهم المتشددون لدرجة التطرف الذين يقصون الآخرين ويعادون الاجتهاد والتعددية في الدين؛ لأنهم لم يتعلموا أن الاختلاف في الدين رحمة! وقد تجد منهم علماء في العلوم الدنيوية، كما تجد بين البوذيين علماء في علوم وتخصصات شتى، فعقولهم ذكية ولكن قلوبهم جاهلة! ومنهم المتكسبون بالدين الذين يأكلون على كل الموائد، والقسم الأخير منهم يتحلى بالوسطية والاعتدال ولكنه يرى منهجه هو الصواب المطلق، وهؤلاء لابد وأن يحترموا ويقدروا؛ لأنهم صادقون مع أنفسهم ومع تعليمهم وما تنشؤوا وتربوا عليه، والأهم أنهم لا يفرضون وصاية على الآخرين من أتباع المذاهب والمدارس الفقهية الأخرى، ولا يحاربون الاجتهاد ولا يمنعونه بملاحقة رموزه، لكنهم الأقل صوتًا والأكثر عزوفًا عن الظهور الإعلامي.
أنت إذا دعوت مثلًا لأخذ المرأة حقوقها التي أمر بها الإسلام، فأنت مغفَّل، وإمَّعة، وعميل لأعداء الإسلام ومطيَّة؟! لأنك خرجت عن صف التشدد، وسمحت لنفسك أن تقبل برأي معتبر آخر .
نعم؛ التطرف ليس له دين، وكل صاحب منهج متشدد في أي ملَّة هو متطرف ينتظر الفرصة؟ لأن تكوينه الفكري، والعقائدي، وتأسيسه العقلي والمنهجي يجعله يفضل الميل للتطرف عن الجنوح للانفتاح على الآراء والاجتهادات المعتبرة في الإسلام.
أكرر، ثقوا بالمرأة المسلمة، وعقيدتها، وجدارتها، ولا تصدروا أحكامكم المسبقة عليها؛ لأنها أكثر ممن ينتقدونها حرصًا على دينها، وغيرةً على هويتها، ولا تنشروا الأراجيف بأن التمكين للمرأة، وأخذها لحقوقها، هو هدمٌ للإسلام، ونشر للرذيلة، ومحرقة للمجتمع؟! قد تكون هناك تجاوزات لابد من البحث عن أسبابها لعلاجها؛ لأنها ليست بسبب مناخ الحرية، ولكن لكل حالة سنجد قصة فردية تخصها، ولا يستدل بالاستثناء على القاعدة، ولا يُصدر بسببه أحكام عامة؛ لأن التعميم هنا خطيئة وظلم وبهتان.
التطرف ليس منشأه الدين كما يظن كثيرون؟ ولكن أصله اختلالات ذهنية وأمراض نفسية تجعل الإنسان أميل للتشدد، واختياره لأنه الأنسب لطبعه، ويوفر له مبررًا لممارسة ساديته باسم الدين مع الأسف؟!
أحدث مثال يكذِّب المقولة المنتشرة في عالمنا العربي، وتدَّعي اتفاق الغرب على قلب رجل واحد في العداء للإسلام ! نجاح حركة طالبان أن تفرض اليوم عليهم احترام خصوصية الشعب الأفغاني وهويته الإسلامية ؟! وأنا لا أنكر عداء جزء من الغرب لكل ما هو إسلامي، ولكن ليس لدرجة التعميم أو استدعاء نظربة المؤامرة التي أصبحت تبريرًا لكل فشلنا، وكسلنا عن اللحاق بركب التطوير والتحديث!
في هذه المرحلة الحرجة نحتاج لأن نُحسِن الظن في بعضنا البعض، ولا ننسى أننا مختلفون؛ وهكذا خلقنا الله، ولا مانع أن نبحث عن المشترك فيما بيننا، ولنتعاون فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.
وأخيرًا، أسأل هذا التيار المتشدد الذي يفرض الوصاية على الإسلام والمسلمين، ولسان حاله لا أريكم إلا ما أرى ! ماذا قدمتم خلال المائة عام الماضية من اجتهاد يخدم الإسلام؟ ماذا قدمتم من مراجعات لتصحيح أخطائكم وتجاوزاتكم في حق الله ورسولة وعباد الله ؟!.