كان الشعر الشعبي ومازال يساير الفصيح في اغراضه وأهدافه بالرغم من الاختلاف في طرق صناعة النصوص الشعرية حيث يعتمد الشعبي على الإيقاع واللحن وربما يكون للسجع فيه دوره الذي يميز أجوده في قافية بيت الرد بالذات، بناء على مفردة قافية البدع خاصة في شعر منطقة الباحة الذي أصبح نموذجاً لشعراء بعض قبائل الجنوب تحديدًا ، بينما يعتمدالفصيح على الوزن والقافية والكلمات الفصيحة فيما يشتركان ربما في الجرس الموسيقي الذي يلامس حاسة السمع فيكون له القبول والإصغاء من متذوقيه حسب ألحانه التي ترتبط بأنواع الفلكلور الشعبي كما هو في شعر المجالسي أو العرضة أوالحداء الجبلي بما يسمى لحن الجبل المرتبط قديما بالرعي والحصاد وبعض النشاطات التي كان يعمل عليها المزارعون وأصحاب الحرف التقليدية.
وقد برز شعراء كثر في حقب زمنية إذ لكل فترة زمنية شعراء مفوهون في الشعر الشعبي سواء ذلك الذي كان يلقى فيمناسبات الزواج والعيد والختان ومواسم الحصاد والعديد من مناسبات الأفراح الشعبية القروية منها أو القبلية، ويظل هناكشعراء حكمة لهم دور في إصلاح القضايا الاجتماعية التي تحدث في عصور ما قبل الحكم السعودي الحالي إذ كانتالمجتمعات تخضع للحكم القبلي الذي يقوم على اتفاقيات مرتبطة بالعادات والتقاليد والمواثيق وعقود الأسواق وما يسمونه بـ” الشدّات ” التي تشتمل على عدة بنود تحمي المجتمع من الجريمة الفردية والجماعية، وكان لبعض الشعراء دور في صناعة القصيدة التي يهدف منها الشاعر لإصلاح وضع ما في قبيلته أو بين قبيلته والقبائل الأخرى ومنهم على سبيل المثال لاالحصر الشاعر المعروف ابن ثامرة . إلا أن هناك شاعر لم يأخذ حقه من النشر والتعريف والذي نحن بصدده في هذا المقال، إنه الشاعر ” معيض القافري الزهراني ” .
الشاعر معيض بن يحي القافري هو من قرية بالحكم بمحافظة المندق حالياً التي تتبع قبيلة بني كنانة، عاش بين القرنين 13-14وكان من أسرة غنية يعود نسبه لبيت من البيوت العريقة عرفت بلقب بيت ” القُفَراء ” كونهم من قرية القِفَرة فحمل اسم البيت اسم القرية، وداعيتهم (إيل يوسف)، وسبق وأن قال شاعر الزمل الشعبي الكبير علي بن سعيد بن عُجير في قصيدة له من لحن الزمل بمناسبة ختان في قرية القِفَرة يمتدحهم بقوله :
أيل يوسف نيمسوا بالحكم في كل وادي
والنمر ما يأخر إلا نموراً عاديه
كان لهم وجاهة بحسب الأعيان ومن عرف عنهم وكانوا من المزارعين المعدودين بما يملكون في السراة وتهامة من أملاك زراعية وماشية ومناحل وكان هذا الشاعر من المعروفين في المجتمع بما يملك من كرم ووجاهة ورؤية وحكمة وعقلية فذةفي حل الكثير من القضايا الاجتماعية في مجتمعه سواء في السراة أو في تهامة وكان ممن يصدع بالحق لا تأخذه لومة لائم بأسلوب غير فض ولا غليظ بل بالحكمة والأناة والجرأة في قول الحق، كان متواضعاً وحليماً وكان شعره يدور حول أفلاك الإصلاح تارة واستنهاض الهمم لما يخدم القبيلة ويعيد لها هيبتها تارات وله عدة قصص مرتبط بها كثير من قصائده قد لايتسع المقام لذكرها، وأتمنى من الباحثين حول التراث والموروث نبش ذاكرة زمانه ومكانه ومن خلال أحفاده وإخراجها في سفر يكون مادة مستساغة لمتذوقي الشعر الشعبي وبالذات شعر الحكمة الذي كان له الدور في خدمة المجتمع بعيداً عن شعرالهجاء والمديح وشعر استدرار جيوب الأغنياء .
تحدث عنه بعض من عاش معه قبل قرابة قرنين من الزمن ومن عرف عنه من الأجداد والآباء ومنهم الشيخ محمد بن قريط –يرحمه الله– الذي عاش أكثر من قرن وهو يستذكر مواقف الشاعر معيض القافري –يرحمهم الله– وتحدث عنه في الوقت القريب الصديق صالح بن خميس الزهراني مع حفظ الألقاب، وكان الصديق علي ضيف الله بن خرمان أول من نشر وسيلة القافري وعلق عليها، وخصه بمقالات منشورة وبعضها دونها في كتاب الشاعر صالح اللخمي الذي هو من تأليفه، كما تحدث عنه بعض أحفاده مما روي عنه من الآباء والمعارف ومنهم الشاعر حسن أحمد القافري المعروف بلقب حسن الشاعر، وأجمع الكثير على أن شعر معيض القافري كان يتسم بالحكمة والموعظة والإصلاح بين الناس وبالذات بين القبائل عندما كانت تقع المشاكل بينها إذ كان له دوره في وضع بصمته الشعرية التي تصلح الأوضاع بما يملك من بيان يبهر المتخاصمين ويلين قلوبهم ويقبلون بما يرى وتنتهي تلك المشاكل ربما بقصيدة في ساحة العرضة أو في السوق أو في الأرياع التي تقع في الحدود بين القبائل المتخاصمة وتختصر الوقت .
القافري له وسيلة قوامها مائة بيت من الشعر الشعبي الذي يتصف بالنصح والحكمة والتوجيه من خبرة تكتنزها ذاكرة هذاالشاعر الملهم وقد تناقلها الكثير حتى وصلت للجيل الحاضر وفيما علمت مؤخرا من أحد محبي القافري ومن أقاربه أنالأستاذ الباحث محمد ربيع الغامدي، يعكف حاليا على مؤلف حول هذا الشاعر وبعض قصص شعره ومنها الوسيلة آنفةالذكر بشيء من التحليل المنطقي الذي سيق بها عصره مقارنة ببعض وسائل الشعراء الذين عاشوا معه أو من بعده، نرجو أن نراها قريباً ليستمتع بها متذوقو شعر الحكمة الشعبي ويجعلون منها مصدر إلهام في كثير من متطلبات الحياة الاجتماعية اليوم التي قد لا تنفك عن الماضي إلا بمستجدات العصر .
ومن هذه الوسيلة الشعرية نستدل ببعضها في هذه الابيات التي قالها الشاعر في ظرف من الظروف ليبين وضعه في تلك الفترة وتحديدًا في موقعة زهران مع الأتراك حيث كان يتمنى المشاركة مع القبيلة ولكن أقعده المرض عنها، وكان وقتها كبيرًا في السن وأصيب (بربطة) في رُكبتيه وأصبح لا يستطيع السير فقال :
معيض حرّم نومه …. يوم اندرق عن قومه ….رمى الله من يلومه … ببارق متلالا ، إلى أن قال :
حلّ الشرّ في عيوني …. واهل الزمان اعيوني … منها تغير لوني …. وقُربتي ملّوني …. الخ القصيدة الوسيلة التي تروي مجموعة من القصص فيها العبرة والعظة والحكمة لحياة كانت مليئة بالقسوة والمآسي والظروف الصعبة في مجتمعات كانتتعيش في شظف من الحياة قبل قرابة قرنين من الزمن إذ قال حفيده حسن الشاعر، أنهم عثروا مؤخرا على وثيقة عمرها أكثرمن مائة وستين عاما لعل فيها ما يثبت بعض ما يبحث عنه محبوه ومن يريد الكتابة عنه مستقبلا والله من وراء القصد .
انعطاف قلم :
رحم الله من فقدتهم مجتمعاتهم من المحسنين قولاً وعملاً وجعل ما قدّموا في موازين حسناتهم بحسب مواقفهم المادية والمعنويةالتي التف حولها حسن الخلق وحب الخير ..