بين الحين والآخر يطل على شاشات القنوات الفضائية أحد من يسمون أنفسهم بالنخبة السياسية اللبنانية، وهذا الظهور الإعلامي غالبًا يحدث عندما يشتد الخناق على بعض الساسة اللبنانيين داخليًا يحاولون الإدلاء بتصريحات إعلامية مثيرة للجدل، وتحتوي على الكثير من الأغلاط، وغالبًا يركزون سهام تصريحاتهم على المملكة العربية السعودية أو دول مجلس التعاون الخليحي. طبعًا علينا أن لا نغفل العوامل والمتغيرات التي قادت النخبة السياسية نحو المتاجرة بمستقبل لبنان بمثل هذا النهج؛ وذلك من أجل بعض المكاسب المادية الفردية من إيران وحلفائها.
في البداية التركيبة اللبنانية المعقدة عرقيًا ودينيًا وسياسيًا، جعلت بالإمكان أن تستغل بعض الجماعات السياسية اللبنانية هذه الهشاشة الداخلية وأن تتصدر المشهد، وهذا ما قام به حزب الله منذ اغتيال دولة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في عام 2005م. المشهد الداخلي اليوم في لبنان، هو وجود دولة برأسين أو بعبارة أخرى وجود الدولة اللبنانية والدويلة اللبنانيه.
والدولة اللبنانية هي الكيان السياسي المعترف به دوليًا وشعبيًا والمُلزم بتنفيذ الاتفاقيات الدولية، على النقيض الدويلة اللبنانية هي كيان تنظيمي مكون من حزب الله وحلفائه بالداخل اللبناني، هذه الدويلة أوجدت لها في البداية أبًا روحيًا وأيدولوجيًا وهو نظام ولاية الفقيه في إيران، ومن ثم استطاعت توفير مصادر تمويل خاصة وأغلبها من التبرعات وتجارة المخدرات، وكذلك تمكنت الدويلة من بناء تشكيلات عسكرية وأنظمة اتصالات بعيدة عن اشراف الدولة اللبنانية، وأخيرًا سيطرة الدويلة على كافة المنافذ في لبنان.
بناءً عليه لا تستغرب من ظهور وزير أو نائب أو رجل أعمال لبناني يسيء للمملكة العربية السعودية في إحدى القنوات الفضائية؛ لأنه مجرد مندوب لهذه الدويلة لاحول له ولاقوة.
والجدير بالذكر أن البنك الدولي صنَّف لبنان على أنها دولة هشة متأثرة بالنزاع الطائفي والعنف والفساد. وفي أي لحظة قد تؤدي جميع هذه الظروف إلى انهيار المنظومة الاجتماعية والأمنية والصحية دون وجود بارقة أمل للتغيير، ووفق توقعات البنك الدولي يرجح أن يصبح أكثرمن نصف سكان لبنان تحت خط الفقر الوطني في لبنان.
ثانيًا: الواقع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان اليوم هو في أسوأ أحواله منذ تأسيس الدولة اللبنانية. مع تدهور الوضع الاقتصادي وانهيار سعر الليرة اللبنانية، وصل سعر الدولار إلى 20 ألف ليرة لبناني، واستمرار تدهور أوضاع المواطنين المعيشية في لبنان، وهذا نتيجة سوء الإدارة والفساد السياسي والانقسام الداخلي. في لبنان لا وجود لأي مشروعات تنموية تذكر على الأرض أو الورق. دون إغفال الأزمة المالية والمصرفية في لبنان وانخفاض مستويات السياحة خلال العقد الماضي، وأزمة شح الطاقة في الداخل اللبناني، وكانت جائحة كورونا القشة التي تنتظرها الدويلة لتنشر نفوذها على ماتبقى من انقاض لبنان.
أصبح الوضع المعيشي في لبنان كارثي أسعار المواد الاساسية ارتفعت لأكثر من 700% وخسر الموظفون في القطاع العام والخاص 95% من القدرة الشرائية جراء انهيار سعر صرف العملة مقابل الدولار، على الرغم من أن لبنان دولة تعتمد على الاستيراد من الخارج لتلبية 80% من الاحتياج المحلي. هذا الواقع الاقتصادي الصعب الممتد لسنوات دفع الملايين من اللبنانيين من الكفاءات ورجال الأعمال للهجرة وتقدر الإحصاءات الدولية أعداد المقيمين اللبنانيين في الخليج العربي فقط بقرابة 400 ألف تبلغ حوالاتهم السنوية تعادل أكثر من 7 مليارات دولار سنويًا.
بعد شرح الحالة الاقتصادية اللبنانية هل تتوقع من نخبة تحالف حزب الله من أمثال جبران باسيل وشربل وهبة وجورج قرداحي أن يتحدثوا بالقنوات الفضائية أو الصحف عن مشاكل لبنان الداخلية، بالطبع الإجابة (لا)، بل معظم تركيزهم هو في تشتيت انتباه الرأي العام اللبناني والعربي نحو مواضيع وقضايا أخرى مثل: الوضع في اليمن أو سوريا أو العراق وغيره، والسبب تغطية فشل إدارة الدولة اللبنانية وفشل الدويلة اللبنانية.
ثالثًا: لبنان خلال العشر سنوات دخلت في تصنيف الدولة الفاشلة Failed State من الناحية الإدارية، بل وتجاوز ذلك بمراحل؛ بحيث أصبح داخل الدولة دويلة فاشلة. السبب يكمن في وجود جهاز إداري بيروقراطي ومترهل، عدم تحديث النظام الإداري، لايوجد أي معايير حوكمة، انعدام المحاسبة، تفشي الرشوة والفساد، كل هذه السمات أدت لخلق اقتصاد رديف معتمد على الرشوة والمحسوبية. وأكبر دليل اختفاء مئات المليارات من الدولارات التي قدمت لدولة لبنان كمساعدات وقروض خلال العقدين الماضية.
المملكة العربية السعودية لوحدها قدمت 70 مليار دولار في الفترة من عام 1990م وحتى 2015م، بخلاف الدعم في مؤتمرات باريس1،2،3 والدعم عبر البنك الإسلامي للتنمية وصندوق التنمية السعودي وحتى خلال جائحة الكورونا، وبعد تفجير مرفأ بيروت قدَّم مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية مساعدات إنسانية عاجلة. وكل دول الخليج العربي قدمت دعمًا ماديًا للبنان؛ إضافة للعديد من الدول العظمى منها على سبيل المثال 560 مليون دولار دعم أمريكي خلال عامي 2019 و2020، أين اختفت أموال الدعم! هل يناقش ساسة لبنان ذلك على القنوات الفضائية؟ بالطبع الإجابة (لا).
هل يناقش ساسة لبنان موضوع تجارة المخدرات وتصديرها لمنطقة الخليج والمملكة تحديدًا للإضرار بشبابها؟ بالطبع الإجابة (لا). اليوم مع انتشار السلاح وتجارة المخدرات والعنف والانقسام السياسي وغياب القرار الداخلي في لبنان، تم إنهاء مستقبل السياحة في لبنان حتى اشعار أخر.
في الختام، يستحيل فصل أي سلوك إعلامي أو سياسي للنخبة السياسية في لبنان عن الواقع الداخلي الصعب والمرير لذلك عند اشتداد المطالبات الداخلية من اجل إصلاح الجهاز الإداري، والسماح للاقتصاد اللبناني بالإنتعاش تبدأ الاستعراضات الإعلامية لنخبة تحالف حزب الله في القنوات الفضائية تحديدًا، والسبب هو أن هذه النخبة غير مقبولة في وسائل التواصل الاجتماعي والشباب في الشارع اللبناني والعربي لايتقبلها؛ ولهذا يهربون للوسائل التقليدية وأسلوب الإثارة والاستفزازات لإبعاد الأضواء الإعلامية عن انهيار لبنان من الداخل.
إن سمعة ومكانة لبنان في العالم العربي أمام امتحان صعب للغاية لإصلاح الدولة اللبنانية وتفكيك الدويلة وتحالف حزب الله، لن يتمكن لبنان من إنقاذ اقتصاده وإعادة الإعمار دون مساهمة قوية من دول الخليج العربي؛ وخصوصًا المملكة العربية السعودية، بل يستحيل تحقيق أي نمو اقتصادي في لبنان دون تحفيز اقتصادي خليجي. إن لبنان كان ومازال جزءًا من المكون العربي وعنصرًا مؤثرًا في الثقافة والمعرفة والفن العربي وعملية تحييد لبنان لصالح طهران لن تنجح؛ لأنها ليست في صالح المواطن اللبناني من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، ولن تكون في صالح الدولة اللبنانية.