تُعدُّ الأمثال انعكاسًا للواقع الذي واجهته المجتمعات منذ القدم ثم قامت بتحويل ذلك الواقع إلى حكم وأمثال تناقلتها الأجيال جيلًا بعد جيل، ومن بين تلك الأمثال عبارة: (مالي أسمع جعجعةً ولا أرى طحينًا)؛ والمقصود هنا التعجُّب من قوة صوت دوران الرحى والضجيج الذي يحدثه رغم عدم إنتاج كمية الطحين التي تُبرر حجم ذلك الصخب والإزعاج، ثم تجاوز هذا المثل معناه الأصلي فأصبح يُقال لمن يكثر كلامه بلا فعل ودون نتائج حقيقية توازي كلامه، وكذلك يقال هذا المثل لمن يكثر من الوعود ولا ينجز أو يفي منها بشيء يستحق الذكر. وما أكثر الجعجعة في وقتنا الحاضر وعلى كافة الأصعدة وفي شتى مجالات الحياة، فما من مجتمع إلا وتجد الكثير من أفراده قد اختاروا الجعجعة شعارًا لهم؛ وبخاصة أن الجعجعة لا ترتبط بسن معين أو مركز وظيفي أو اجتماعي دون غيره بل ربما تجد الجعجعة تتجاوز عالم الإنسان إلى عالم الحيوان.
قد تبدأ الجعجعة في وقت مبكر حين تجد أحد الأطفال عندما يكون في بيته وبين أبيه وأمه فيطلق للسانه العنان بكلمات التحدي وعبارات التهديد والوعيد، وبأنه سيفعل ويفعل ولن يرحم أي طفل آخر يتعرَّض له أو يمس ألعابه وحاجاته الشخصية، ولكن بمجرد أن تتخطى قدماه عتبة باب بيتهم يتحوَّل ذلك الطفل إلى نمر ورقي، وإن قلت قطًا أليفًا أو ربما تحول إلى فأر مذعور، بل وحتى داخل المنزل عندما يزورهم طفل آخر تجد هذا المهايطي الصغير يرفع الراية البيضاء، ويترك الجمل بما حمل للضيف الشرس. وهناك أيضًا من الطلاب من يُمارس الجعجعة مع أسرته وأصدقائه باستعراض قدراته العلمية، وفيما يطلق من وعود بتحقيق نجاح باهر في اختباراته، وبأنه لن يرضى إلا بتقدير عالٍ جدًا، ولن يتنازل عن المركز الأول بين أقرانه؛ وعندما يأتي وقت الجد ولحظة الحصاد تجده في ذيل القائمة إن لم يكن متزعمًا للراسبين.
لكن المشكلة تأخذ بُعدًا آخر عندما تصبح الجعجعة ثقافة داخل أروقة المؤسسات بصورة عامة والمؤسسات الحكومية على وجه الخصوص؛ ففي المثالين السابقين عن جعجعة الأطفال وكذلك الطلاب نجد أن المتضرر بشكل مباشر من نتائج الجعجعة هو الطفل نفسه، وكذلك الحال بالنسبة للطالب وإن تجاوزهما الضرر فلن يتجاوز أسرتيهما، بينما عندما يكون صاحب الجعجعة موظفًا رسميًا يتقاضى راتبًا شهريًا من موازنة المؤسسة؛ فهنا تكمن المشكلة؛ حيث إن كثرة الجعجعة تكون على حساب الإنتاجية التي حتمًا ستكون متدنية، فمن البديهي أن من تكثر جعجعته تنخفض إنتاجيته، والأكثر خطورة عندما تكون الجعجعة على مستوى الإدارة العليا في المؤسسة، فتجدها تُبالغ في الحديث عن خططها ومشاريعها المستقبلية وتحولاتها المؤسسية فتنشغل وتشغل موظفيها فيضيع وقتها ووقتهم، بل ربما تتوقف كثير من الأنشطة الرئيسة من أجل تشكيل فرق العمل وتقديم المبادرات والقيام بالدراسات، وإهدار الساعات والأيام في عقد ورش عمل واجتماعات واحتفالات ورحلات شتاء وصيف لا طائل منها سوى المبالغ المالية الكبيرة التي تتكبدها موازنة المؤسسة على حساب ضياع حقوق موظفيها واحتياجات عملائها.
وفي نهاية المطاف وبعد طول انتظار وترقب من الجميع يتمخض الجبل فيلد فأرًا؛ عندما يكتشف الموظفون أن ما كانت تمارسه الإدارة طوال تلك الفترة ليس له علاقة بالتخطيط بل لا يمت لأي من الأساليب الإدارية بصلة، فنتاج عمل الإدارة بعد هذه الجعجعة لا يخرج عن كونه مجرد تخبيص وليس تخطيطًا. وعندما نقول تخبيصًا فالأمر يعني أن النتائج لم تقتصر على مجرد فشل الإدارة في تحقيق ما كانت تخطط له فحسب فيكون الأمر هينًا، بل إن الإدارة فشلت حتى في المحافظة على الوضع القديم الذي بنته إدارات سابقة بجهود كبيرة وفكر راقٍ، وفي هدوء وسكون ودون ضجيج إعلامي أو هياط إداري قبل أن تعبث إدارة الجعجعة بتاريخ هذه المؤسسة؛ حينها يردد منسوبو المؤسسة بصوت واحد: (ليتك خليتها على مبنى الشايب).
خير ختام:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)).
• عضو هيئة التدريب في معهد الإدارة العامة.