في ثقافتنا كثيراً ما يُقيَّمُ الإِنسانُ بما يمتلكُ من أَرقام على سبيل المثال: رصيده البنكي، رقمَ سيَّارتهِ المميَّز، رقمَ جوَّالهِ الفريد، عدد متابعيه في وسائل التواصل الاجتماعي.
هذه –في الحقيقةِ- ثقافة (تُشيِّأُ) الإِنسان؛ بمعنى أنها تفرغهُ من القالب الإنساني (النفسي/العقلاني/الروحاني/الوجداني) فتصبُّهُ في قوالب (الشيءَ) الجاهزة، فتصبحُ قيمته بالأرقام التي بحوزته؛ فإن نقصت أرقام رصيده البنكي، نقصت قيمته، ونَفر الناس منه، وتفرقعَ سمَّارهُ وندماؤه، وجافاهُ الناسِ إليه، بل إنهم فوق ذلك يحمِّلونه وزرَ التغيُّر عنهم، وقد وجدتُ بيتَ شعرٍ منحوتٍ في عمودٍ قديم يقول فيه قائله:
قالوا تغيَّرتَ، قلتُ الدَّهرُ غيَّرني .. ما قلَّ جودي ولكن قلَّ موجودي
يحاولُ الشاعرُ أن يقول للناس: أنَّ خصال الجودِ والإكرام باقيةٌ فيَّ لم تتغيَّر، لكنَّ ما أملك (أي الأرقام) هي التي قلَّت، وهذا ما حدا بالنَّاس لاتهامهِ بالتغيُّر، بدلَ الوقوفِ معه، أو على الأقل معرفة ما أصابهُ من محن.
ثقافةٌ هزيلةٌ تعتور مجتمعاتنا يقيِّمُ النَّاسُ على إِثرها وزنَ الإِنسانِ بالسيارة التي يسوقها، فإن كانت فخمة، وحديثة كان من أهلِ التقديرِ عندهم وإن كانَ من أدنى الناس خُلقاً وأدباً وعلماً، وإن كانت زهيدة الثمن، لا تنتمي لفئة السيارات الثمينة الفخمة هبطت منزلته وإن كانَ من أرقى الناس خُلقاً وأدباً وعلما..!
يخبرني رئيس مكتب أحد الوزراء أنَّه كان يأتي إلى عمله في سيارةٍ فخمةٍ فينهضُ حُرَّاس البوابةِ في حماسةٍ وتهيُّبٍ لأداء التحية عليه، وفي يومٍ من الأيام جاءهم بسيارةٍ صغيرةٍ لا يقتنيها إلا الفقير ماديَّاً، إذ كانت سيارته الفخمةُ في الصيانة، يقول: نظرتُ إلى الحرَّاس فإذا بهم لا يكادون ينهضون، يتهامسون فيما بينهم، وحدقاتهم تدور بالسيارة في احتقارٍ مبينٍ، متلكِّئين للسلامِ عليَّ، مع أني لازلتُ في منصبي لكن يبدو أنني فقدت القشرة الزائفة في قيمتي التي كانت تقترن بقيمة السيارة التي أملكها..!!
وسائل التواصل الاجتماعي تطفحُ هي الأُخرى بالسَّطحيةِ في تقييم الإنسان من خلال أعداد متابعيه، حتى ارتفعتْ أثمان التافهين على أهل الثقافة والعلمِ والأدبِ والفكر بما حازوا عليه من أعداد كبيرة من المتابعين، حتى علت قيمة من لا قيمة له في الخُلقِ والقيم والأدب والعلم بين الناس لأنه يملكُ رقماً عظيماً من المتابعين، فأصبحَ يُدعى للمناسبات، ويُحجزُ للإعلانات، ويقدَّم في الاحتفالات، وتهالُ له الدعوات، وهو من أهل السفاهات، وأصحابِ التفاهات!!
هُنا يتغيَّرُ مفهومُ القدوة في المجتمع، وتنتكس المعايير رأساً على عقب، فالفضيلةُ تصبحُ بضاعةً رخيصةً، والقيمُ تغدو مما عفى عليه الزَّمن، والأدبُ مما يستحي منه صاحبه، والأخلاق مزيَّةٌ مخفيَّةٌ يعدُّ التفاخرُ بها ضرباً من الخبلِ والجنون، وهُنا أيضاً تتميَّعُ الهوية؛ فالتحدُّث باللغةِ الأُمِّ فيه أثرٌ من التَّخلف، وممارسةِ شعائر الدين تصبحُ مجرَّدَ عادة (إن لم تعتبر مما لا يتوافق مع أُسلوب الحياةِ العصرية!).
ارتكست مفاهيم تقدير الذات والتميُّز الشخصي، ويذكرُ أحد المفكرين الخليجيين قصَّةَ إبنٍ يلحُّ على أبيه أن يطلبَ من عمِّه –شقيق الأب- وقد كان مديراً عاماً للمرور أن يمنحه رقمَ لوحةٍ مميَّزٍ لسيارته، فأكثرَ الإلحاح حتى سألهُ الأب: هل ستكونُ وأنتَ بهذا الرقم المميَّز في لوحةِ سيَّارتك مميزاً حقاً بين أقرانكَ في عملك، أجاب الإبن: لا، أكونُ مميَّزاً فقط حينما أقودُ سيارتي، فردَّ عليه الأب: التميُّزُ هو في شخصكَ وليس في لوحة سيارةٍ أُخرى، لهذا عليك أن تسعى لتكون مميَّزاً بين أصحابك بذكائك، ومهاراتك، ومعرفتك وشخصيتك، وأخلاقك.
إننا اليوم أحوج ما نكونُ إلى تكريس القيم الأصيلة، وإنقاذ المعايير الجليلة، ووضع الأُمور في نصابها الصحيح، وإبراز القدوات الفاضلة التي توارت بسبب أكمام التفاهة التي بدأت تغمرُ مجتمعاتنا، حتى أصبح أهل التفاهات والفاشنستات نجوماً، وهم مجرَّدَ رمادٍ باهت، في حين فإنَّ من يُصلح المجتمعات، ويرفعُ شعار الأخلاق، ويسعى إلى تعزيز القيم كمن يعرضُ بضاعةً كاسدة!!.
المجتمعات المتقدمة التفتت إلى أخلاقياتها فتلك اليابان أعادت أخلاقيات كانت سائدةً منذ أربعمائةِ عامٍ في فترةِ إيدو لتضعها في مقررها الدراسي وتسميها مادة (التربية الأخلاقية)، واصفةً ذلك بالقول: “أن التربية الأخلاقية تؤدي دوراً مهماً في مساعدة التلامذة على تحقيق حياة أفضل لهم، بالإضافة إلى تأمين تنمية مستدامة للمجتمع والدولة”.
في عضويَّةٍ لي مؤخراً بإحدى اللِّجان المكلَّفة على مستوى عالٍ جداً بتعزيز الأخلاقيات في شريحةٍ معيَّنة، عقَّب أحد الأعضاء بقوله: إنها الفرصة الأخيرة والذهبية لنا لإنقاذ الأخلاقيات! وأنا أقولُ بأنَّ على مجتمعاتنا أن تُدرك أهمية المبادرة في تصويب المسارات، وتعديل الإتجاهات حتى لا تغمرنا التَّفاهة، فنصبحُ أُمَّةً بلا هويَّة، ومجتمعات بلا خصوصيَّة..!
وفقك الله ونفع بك وبما تطرح .افدت واجدت كثيراً .جعلها الله لك ذخرا