المقالات

أوقفوا التنمر

التنمر ظاهرة سلوكية بدأ النقاش حولها من فترة وجيزة، ويشكَّل هذا النقاش نوعًا من الوعي المجتمعي تجاه الآثار النفسية التي تترتب على هذه الظاهرة التي تتعدد أوجهها وكيفيتها. لكن الذي لم يناقَش بشكل كافٍ ما إذا كانت هذه الظاهرة طارئة أم أنها موجودة وضاربة الحضور منذ زمن طويل، وفي كل البيئات.
إن مشكلة التهكَّم والتندر والسخرية بدعوى الدعابة حاضرة مجتمعيًا، ويتم التعايش معها بقوة الفعل والحضور، حتى لقد غدت وكأنها أمر طبيعي ومقبول. غير أن هذه الظاهرة، لا يمكن اعتبار منشئها بالمدرسة أو الشارع، بل هي ظاهرة انتقلت إليهما من البيت ومن الأسر أي من المحضن الأول للفرد؛ فهي إذن، وبلا أدنى مبالغة أشبه بعادة مجتمعية متجذرة، ويمارسها الكثير بنوع من الفكاهة والتندر والدعابة تجاه المتنمَّر عليه، وليس ثمة شك في أن هذا الأمر غير مقبول إطلاقًا. إن الجديد اليوم فقط هو هذا النقاش الحاصل حول هذه الظاهرة، وهو نقاش تعمق وتجذر بسبب ظهور المصطلح وشيوعه ووعي الناس به وبمعناه، فالظاهرة قديمة، ولكن الحديث عنها ومناقشتها كأحد الأمراض الاجتماعية على هذا النحو الواسع أمر مستجد.
فإذا أخذنا التركيز كمثال في هذه المقالة على التنمر المتعلق بالشكل: كالطول والوزن ولون البشرة وشكل الإنسان وهيئته؛ فإن من الملاحظ بشكل كبير التركيز في الثقافة المحلية على المظهر الخارجي، بل لا يجد أحد حرجًا في التعليق والتندر على ما لاعلاقة للإنسان باختياره مثل طوله ووزنه ولون بشرته وشكل أنفه. علاوة على أن هذا الأمر يعدُّ بعيدًا كل البُعد عن القيم الإسلامية النبيلة التي تدعو، وبشكل صريح إلى النهي عن ذلك. كما في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ) كما قالَ رسولُ اللهِ -صـلى اللهُ عليهِ وسلـم-: “لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى”. فلا قيمة ولا وزن للمظهر الخارجي ولا للحضور الاجتماعي في تقييم هذا الإنسان، والاعتبار الأوحد في تقييمه هو التقوى والعمل الصالح أو الخيرية كما تُشير هذه الآية التي أشرت إليها قبل قليل، وتقديم النفع للمجتمع.

ولذا وقف الإسلام من هذه الظاهرة موقفًا متشددًا وصارمًا، ولي أن أمثل بهذا المثال أو الإجراء العملي في محاربة هذا السلوك أو هذه الظاهرة، وهو مثال نأخذه من السيرة النبوية لقد سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر الغفاري -وهو عربي-يعتدي على بلال بن رباح -وهو حبشي- ويعيره بأمه ويقول له: يا بن السوداء، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غضبًا شديدًا ونهر أبا ذر، وقال له في لغة حازمة وصارمة: طف الصاع طف الصاع. ثم اتجه إلى أبي ذر وقال له: إنك امرؤ فيك جاهلية، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو عمل صالح، وتقول الرواية: إن أبا ذر وضع، بعد ذلك، خده على الأرض، وأقسم على بلال أن يطأه بحذائه حتى يغفر الله له زلته هذه.
إن الإنسان، إذن، لا يقاس بطوله ولا بعرضه، ولا بلونه ولا بجماله، وإنما بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق؛ ولذا حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تجذير هذا المعنى في أصحابه وفي أمته، يقول مثلًا: “إنَّ الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”، ويقول -صلى الله عليه وسلم- أيضًا: “الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب”.
وغني عن الذكر أن مجتمعنا الإسلامي بطبعه لا داعي لتذكيره بنظرة الإسلام للجوانب الأخلاقية قبل التركيز على شكله، بل الهدف في ثنايا هذا المقال حثه على تعزيز التركيز على جوهر الأشخاص ونهي الدين الإسلامي الحنيف عن موازنة الناس بمعيار عدا معيار التقوى والخلق الحسن، وغير ذلك قشور ومجرد وهم.
إن من المهم التركيز على النظر بعين الاعتبار لجوهر المرء وخيريته؛ فلا يعني شكله وقوامه شيئًا، ولا يمثلان أي أهمية في معيار البشر فكم من طويل قامة لا يحمل من الخلق، ولا من النفع للمجتمع شيئًا، وكم من دميم خلقة يتميز بخلق رفيع، ويحمل نفعًا كثيرًا لمجتمعه.
ولست بعيدة عن الصواب إذا قلت: إن ما بتنا نعيشه من حمى عمليات التجميل التي تهدف إلى تحسين المظهر الخارجي وجماله وبياض البشرة واستقامة الأنف وغيرها من الأمور التجميلية التي فيها الكثير من التغيير لخلق الله قد أفرز لنا أجيالًا ممن يظنون أن الشكل والقامة ولون البشرة أهم عوامل تقييم الآخرين، وهو ما أدى إلى الاتجاه نحو الكمال وتغيير خلقه الله بشكل أو بآخر لنيل رضا الناس على حساب رضا رب العالمين؛ ولأن الهدف الأساسي الديني والتربوي والإنساني يجعل من الأهمية بمكان إيقاف هذه الممارسات من الأسرة أولًا والحزم في إيقاف المتنمرين عن التسبب في الأذى النفسي للآخرين، وجعلهم مدعاة للسخرية بدعوى الدعابة، ووقوف الآباء والأمهات موقفًا حازمًا من التعرض للآخرين بهذا النوع من التنمر في الأسرة، إن من شأن ذلك إيصال رسالة واضحة إلى الأبناء أن الجمال هو جمال الجوهر والمخبر، وأن من غير اللائق التعليق بأي أمر يخص الآخرين، ويعرضهم للسخرية مما ليس لهم يد في تغييره.

————————-

عضو هيئة تدريس جامعة الامام عبدالرحمن بن فيصل

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button