في عام 1964 استقبل الرئيس اللبناني الراحل “شارل حلو” بعد انتخابه رئيسًا وانتقاله إلى القصر الجمهوري، وفد نقابة الصحافة الذي يُمثل بأكثريته أصحاب الصحف ومالكي الامتيازات، فوقف الرئيس الأسبق على باب قصره الخارجي يستقبل زملاءه القدامى (عمل الرئيس صحفيًا في الثلاثينيات)، وكان كلما صافح واحدًا منهم سأله: كيف حال الرئيس العربي الفلاني؟ أو كيف حال رئيس حكومة أو وزير خارجية أو رئيس جهاز مخابرات تلك الدولة الأجنبية؟ بحيث شمل السؤال الأعضاء الـ12 لنقابة الصحافة نتيجة معرفته بارتباطهم السياسي، وبعد أن انتهى، وجلس الجميع التفت إليهم، وقال بمنتهى الجدية: أهلًا وسهلًا بكم في وطنكم الثاني لبنان.
كانت هذه العبارة دالة عن مدى التدخل الأجنبي في البلاد الذي صاحبها من نشأتها وحتى اليوم؛ فقد مر التدخل الأجنبي بلبنان بعدة مراحل بدءًا بمرحلة حكم القناصل وانتهاءً بالمرحلة الإيرانية، وبالتأكيد في كل مرحلة، كان هناك لاعبون خلف الستار وأمامه من عرب وغربيين.
وتعود مرحلة “حكم القناصل” إلى يوم كان جبل لبنان تحت الحكم العثماني (1516 – 1918)، واندلعت عام 1845 انتفاضة شعبية ضد نظام القائمقاميتين الذي كان ساريًا في تلك الحقبة، والذي يقوم على تعيين قائم مقام يمثل الموارنة وآخر يمثل الدروز، وتبعتها مجازر 1860 بين الدروز والموارنة، ما اضطر السلطنة حينها إلى وضع نظام جديد للحكم، فتح الباب أمام تدخل القناصل الأوروبيين الذين أصبحوا حاضرين بقوة في جبل لبنان، بحكم أهمية موقعه على البحر المتوسط كصلة وصل بين الشرق والغرب، تجاريًا وثقافيًا، وبدل أن يلغي التدبير الجديد ازدواجية سلطة نظام القائمقامية، فقد كرّس التمثيل والتوزيع الطائفيين، وعزّزه عبر تكوين مجلس موسع يعاون القائمقام، ومؤلف من عشرة أشخاص موزّعين على الموارنة، والدروز، والسنّة، والروم الأرثوذكس، والروم الكاثوليك، ما ساهم في تعميق الخلافات الطائفية، وشرّع الباب واسعًا أمام تدخل الدول الأوروبية في شؤون لبنان، بدءًا بتبنّي فرنسا الموارنة، وإنجلترا الدروز، وروسيا القيصرية الروم الأرثوذكس، وطبعًا، منذ ذلك الزمن، راح الباب العالي والقناصل، كلٌّ من موقعه، يعملون على زرع بذور التفرقة الطائفية، بدعمهم طائفةً وتحريضهم على أخرى. وتمكّن القناصل من دفع الأتراك إلى تحمل المسؤولية بشكل مباشر، وإغراقهم في اللعبة الطائفية، عبر استبدال نظام القائمقاميتين بتعيين متصرّفين (حكام) أتراك بدل المحليين من الطوائف المسيحية في مناطق جبل لبنان، بعدما تغلغلوا جيدًا في طول جبل لبنان وعرضه، مستفيدين من كره السكان ما لاقوه من جوْر، وما عانوه من استبداد، وبالأخص المجاعة التي فتكت بهم خلال الحرب العالمية الأولى، على يد السلطنة العثمانية التي كانت قد دخلت، في بداية القرن العشرين، في حالة نزاع، ثم انهارت، ودخل لبنان بعدها في مرحلةٍ قضت بوضعه تحت الانتداب الفرنسي، بعدما كانت فرنسا قد أعلنت دولة “لبنان الكبير” بحدوده الحالية عام 1920.
كان لبنان من الدول الأوائل في المنطقة التي تمكّنت من الحصول على استقلالها من فرنسا منذ 78 عامًا (1943)، متمتعًا بنظام ديمقراطي برلماني بمؤسسات دستورية، وكان يفاخر ويتباهى بتنوعه وبتعدّديته المعبّر عنهما بأحزاب وقوى سياسية تتولى حكمه وإدارة شؤونه، وهو عضوٌ مؤسّس في الأمم المتحدة وعضو مؤسّس في جامعة الدول العربية، وكان رائدًا في تعزيز سياسة التضامن العربي وعدم الغرق في المحاور، وهذا ما عمل عليه فؤاد شهاب الرئيس اللبناني الأسبق (1958-1964)، طوال فترة حكمه، من خلال بناء الدولة والمؤسسات، وترسيخ سياسة الحياد الإيجابي، وتعزيز الطبقة الوسطى، وكان لبنان سبّاقًا في مجال تبنّي قضية الشعب الفلسطيني والدفاع عنها في المحافل الدولية. كما يتميز بحريته وانفتاحه على الغرب، وبدوره الثقافي وصروحه العلمية خاصة في فترة أواخر الخمسينيات والستينيات الميلادية من القرن الماضي.
لكن مع توقيع اتفاق القاهرة عام 1969 الذي شرعن الوجود المسلح الفلسطينى في لبنان الذي تضخم، وأصبح دولة داخل دولة بدأ مفهوم الدولة بالانكماش خاصة بعد انلاع الحرب الأهلية عام 1975 لدرجة أصبح يطلق مسمى جمهورية الفكهاني على مكان تواجد القيادات الفلسطينية، وتحجم هذا النفوذ مع الاجتياح “الإسرائيلي” لبيروت في العام 1982، والذي حوَّل حي “الفاكهاني” إلى جحيم، الطائرات تقصف من السماء والبوارج من البحر.
كل مبنى يُشك أن القائد الفلسطينى ياسر عرفات يتوارى فيه يقصف.. ولما كانت النهاية قد اقتربت، سأل أحد الجيران أبا عمار: هل تريد أن تدمر بيروت التي احتضنتك، فأجابه لا سأنسحب منها، وهكذا كان. رحل الختيار إلى تونس.. والمقاتلون إلى البقاع.. و«أقفلت» “جمهورية الفاكهاني”.
ودخل لبنان في المرحلة السورية التي امتدت حتى 2005؛ حيث كان الوجود السوري العسكري والسياسي هو المسيطر حتى نجحت ثورة الأرز التي اندلعت في أعقاب اغتيال رفيق الحريري في إخراج آخر جندي سوري من لبنان، ودخلنا في المرحلة الإيرانية التي ثبت أركانها بعد اتفاق الدوحة 2008
فكيف بدأ هذا النفوذ؟
يُشكل عرب لبنان الشيعة حوالي ثلث سكانه وفقًا لتقديرات مختلفة، والذي أنهكته حروبه الداخلية وحروب الآخرين عليه…فقامت إيران بتدعيم وتمكين الثنائي الشيعي: حزب الله وحركة أمل، قبل إعطاء الحزب “وكالة حصرية” لتمثيلها في بلاد الأرز، وللقيام بأدوار إقليمية نيابة عنها وعن حلفائها فكانت آخر تصريحات حسن نصرالله الكاشفة عن امتلاك الحزب لمئة ألف مقاتل تحت السلاح، بما يعادل ضعف القوة العددية للجيش اللبناني، مع فارق نوعي لصالح الحزب من حيث التسليح والتدريب و”العقيدة القتالية…وإذا أضفنا إلى هؤلاء، قوة حركة أمل، يمكننا القول: إن ميزان القوى الداخلي في لبنان يميل على نحو كبير لصالح حلفاء طهران.
اليوم يغرق حزب الله اللبناني في “زواريب” السياسة المحلية اللبنانية، وسط حالة انفضاض مسيحي – إسلامي (سني)، وتعالي أصوات شيعية مستقلة عن “الثنائي” وخارج دائرته، ومن دون أن يقوى الحزب على الإفادة من “فائض القوة” التي يتمتع بها…فالحزب الذي نجح في خلق انطباع -واهم -داخل البلاد لسنوات بقدرته على عمل “ميزان ردع متبادل” مع إسرائيل، يعجز عن الرد على الضربات المتلاحقة التي تلقاها مؤخرًا في خلدة (السنة) وشويّا (دروز) والطيونة – عين الرمانة (موارنة)…لا مكان في هذه المواجهات لترسانة حزب الله الصاروخية، وإن استمر الحال على هذا المنوال، ولم يخرج الحزب من معادلة الداخل اللبناني والعباءة الإيرانية فانه سيتحول إلى عبء على الشعب اللبناني وسيصيب الصدأ ترسانته الصاروخية، كما أصاب من قبل ترسانات لبنانية وفلسطينية كانت ملآى بمختلف صنوف السلاح مالم يقرر الاندماج في الجيش اللبناني، والتحول لحزب مدني، والتخلي عن ميليشياه المسلحة وفكره الإرهابي المتبني للأجندة الإيرانية.
في منتصف مايو القادم؛ حيث ينتظر إجراء انتخابات البرلمان في حالة النجاح في إجرائها، وجاءت نتائجها مخيبة لحلفاء طهران هل سيقبلون بها أم يحولون البلاد لحالة الشلل الكاملة حتى يحصل اتفاق “الدوحة 2″؟!
والسؤال الثاني لو قررت الحكومة الإسرائيلية الانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة هل سيسلم الحزب أسلحته ويندمج في الدولة أم سيبحث له عن مبررات أخرى، وهل سيتوقف عن التدخل في الدول الأخرى كسوريا واليمن والبحرين؟
لقد كان المؤتمر الصحفي الذي عقده العميد تركي المالكي المتحدث باسم التحالف العربي في 26ديسمبر فاضحًا بالصوت والصورة؛ لتورط حزب الله في دعم الحوثي في أنشطته الإرهابية في اليمن، والسؤال الجوكر.. هل ستضحي إيران بورقتها الأهم في المنطقة مهما كانت المبررات؟!!
أسئلة الأيام القادمة قد تحمل إجابتها…
——————
أكاديمي متخصص في الاتصال الجماهيري والسياسي